عمر طاهر يكتب | نفحات الشيخ الشريب

عمر طاهر يكتب | نفحات الشيخ الشريب

عمر طاهر

من الطبيعى عندما تكون فى زيارة لشخص ويسألك عن مواصفات الشاى الذى سيُقدم لك أن تكون ملاحظاتك فى حدود كمية السكر ودرجة الثِّقل التى تحبها، لكن كلما كان الأمر متاحا بالنسبة إلىّ طلبت من هذا الشخص أن أقوم لأعدّ الشاى بنفسى، وإذا كان الأمر صعبا، أسهب فى وصف ما أريده: عدد ملاعق الشاى، وكمية السكر، ودرجة التقليب، وحجم الكوب «أفضّل الخمسينة»، والمساحة التى سيشغلها الشاى داخل الكوب بما لا يتجاوز الثلثين، لا أحب الكوب مملوءًا عن آخره بما يجعل تفادى شرب أول شفطتين بالأداء الصوتى الشهير «شششوففففففت» صعبا، ثم الاستفسار عن أى محسنات بديعية لدى صاحب البيت يمكن أن تضاف إلى الشاى، كورق النعناع البلدى، أو عود قرنفل، مع تأكيد -بالطبع- الرفض التام لفكرة «الشاى الفتلة»، ولا تغافلنى، فتقرر إفراغ الفتلة وتقديمه كأنه «كشرى»، فهى حركة بلدى مفقوسة، وفى النهاية يتبقى سؤال بسيط، إن كان الشاى الموجود فى مطبخ الصديق من النوع الخرز أم الناعم.

شرب الشاى خارج البيت بالنسبة إلى شخص مثلى فضيحة بلا شك، ولكن الشاى بالنسبة إلىّ ليس مشروبا عابرا لتسديد خانات، هو محطة فى يومى ما لم يكن الاستمتاع بها كاملا فلا يوجد أى داع له، كوب الشاى بالنسبة إلىَّ يصلح كل ما حوله لحظة شربه أو يفسده تماما، أو كما قال الشاعر الصافى النجفى:

منه اصطباحى وشجونى ولذّتى

ومنه شفائى من عناء مُكدّر

يغيب شعور المرء فى كؤوس الخمر

ويصحو بكأس الشاى عقل المفكر

حقق نبات الشاى نجاحا غير عادى مقارنة بمنافسيه فى مزارع العالم، بدأ نباتا غير مفهوم قيد التجربة والاختبار، ثم ارتقى درجة بعد أن صنفه الأوروبيون كدواء يتم بيعه فى أماكن بيع العقاقير، ثم أحبَّه رجل إنجليزى فأنشأ شركة اسمها «شركة الهند الشرقية»، من أهم أهدافها نقل أكبر كميات شاى ممكنة من الهند إلى إنجلترا. كان الخواجة توماس ليبتون رجل أعمال ناجحا فى مجال آخر، تصادف أن هبط سعر الشاى فوجدها فرصة لدخول المجال، جرب أفكارا كثيرة، إلى أن أصبح أول من اخترع «باكو الشاى» بأن قام بتغليفه، ثم أصبح الشاى وتوماس ليبتون شريكين فى رحلة نجاح عظيمة «زى وردة وبليغ حمدى»، وغزا العالم لدرجة أنه قبل أن تقام أول كأس عالم رسمية عام 1930 كانت أول تجربة كأس عالم عام 1911 «تقريبا» تحت اسم كأس السير توماس ليبتون.

لم تَطُل حياة ليبتون حتى يرى لمستنا كمصريين على النبات الذى غزا العالم من خلاله، فاته «شاى الصعايدة»، حيث يمتزج الشاى مع السكر فى إناء واحد يغلى لأطول فترة ممكنة فوق النار، حتى يعطيك طعم طلقات الجرينوف. فاته تحوُّل الشاى من مشروب إلى دلالة شعبية على الرشوة. فاته أن شايًا شهيرا فى الثمانينيات فى مصر كان ناجحا بدرجة كبيرة، إلى أن تم إثبات احتوائه على بُرادة الحديد فتوقف إنتاجه فترة، وعندما عاد لم يكن طعمه مثل الأيام الخوالى، فتخلَّى عنه الناس واعتبروا نزع برادة الحديد التى ضبطت مزاجهم غشًّا تجاريا!فاتته اللحظة التى نصَّب المصريون فيها الشاى وزيرا لداخلية المعدة، لقدرته على «الحبس» بعد الطعام! أصبح لكل طائفة «شايها»، من البوابين بلزوجتهم، إلى الصنايعية كحالة من الراحة المقترنة بالتأمل الذهنى فى الشغلانة، إلى المدمنين كضرورة حتمية لتسييح البرشامتين، مرورا بالتصنيفات الحياتية من شاى العصارى، إلى شاى المذاكرة، إلى شاى عزومة المراكبية «تعااشّب شاى»، إلى شاى العلاج من الصداع والبرد وتعكر الدم. فاته استخدام الملعقة المعدنية كأداة عزف تعلن أن الشاى على بُعد خطوات. وفاتته البيوت التى تجفف «التفل» لتعيد استخدامه، والبيوت التى يعتبر شراء طقم الشاى بالنسبة إليها خطوة جادة على طريق إتمام الزواج. لحق ليبتون بمشهد احترام العالم للشاى، لكن فاته مشهد تقديس المصريين له لدرجة أن الحكومة أقرته كمادة تموينية أساسية تستحق الدعم، لنصبح أول دولة فى العالم تقنن وتدعم مزاج مواطنيها.

فى منتصف الثمانينيات كانت هناك بيوت كثيرة ومحلات تضع بوسترات ونتائج حائط لشيخ عجوز مبتسم، يصب الشاى فى كوب زجاجى صغير اسمه «الشيخ الشرّيب»، وكان اسم الشاى أيضا، فسَّرت لى جدتى اقتران الشاى بـ«شيخ» بأن هذا النوع من الشاى كله «نفحات»، مَرَّ طعمه بوجدان الواحد فى أيام الطفولة، ثم اختفى من الأسواق، وإلى الآن لم يحدث ما يشبهه، ثم تآلف القلب أيام المذاكرة مع شاى التموين «شمتو» ثم اختفى، بعدها ارتاح ضميرى لشاى «البراد الأزرق» ثم اختفى أيضا، قصص حب ما زالت ماثلة فى الوجدان، وهى التى أنبتت الخيال نباتا حسنا. قصص لا يعوضها الارتباط بالخواجة «ليبتون»، ولا حتى الزواج من «العروسة».

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المصدر:الدستور الاصلى

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *