عن رواية – العمى – للكاتب البرتغالي/ جوزيه ساراماجو

 ”لا اعرف لماذا عمينا فربما نكتشف الجواب ذات يوم. أتريد أن أخبرك برأيي. نعم, أخبريني. لا أعتقد أننا عمينا, بل أعتقد أننا عميان, عميان يرون, بشر عميان يستطيعون أن يروا, لكنهم لا يرون“
العالم يصيبه الوباء.. ليس وباء الطاعون أو الكوليرا.. لكنه العمى.. عمى جديد من نوعه في حد ذاته.. فهو ليس أسوداً كما هو المعتاد.. لكنه إحساس بالغرق في بحر أبيض من الحليب.. لم يجد العلم له علاجاً.. لم ينفع العالم تضرعات الدين.. الحكومات كعادتها وقت الحاجة عديمة القيمة هزلية.. كل ما تستند عليه ليقف بجانبك ويحميك قد سقط.. الوباء يتفشى ولا أحد يعرف لماذا ولا كيف يحدث.. ولا حتى إلى متى وما النهاية.. ولكنه يتخيل أن في عالم من العمى.. يمكن للأشياء أن تبدو على حقيقتها تماماً..
عن هذا تدور رواية العمى للكاتب البرتغالي جوسيه سراماجو الحائز على جائزة نوبل للأداب عام 1998 التي تُعتبر واحدة من علامات الأدب العالمي والتي تُرجمت لـ 25 لغة بحسب ويكيبيديا.. والتي تحولت لفيلم سنيمائي عام 2008  لفيلم سنيمائي بنفس الإسم The Blindness.. عن أشخاص بلا أسماء على الإطلاق.. عن مكان و عالم بلا مسمى.. لن تهم المسميات ولن تهم الأماكن.. فالظاهرة إنسانية عامة ولن تهم أي أقنعة أخرى من أي نوع..
في بداية قرائتي للرواية لم أشعر بالإعتياد على طريقة سارماجو في الكتابة و السرد.. كسر كبير لقواعد الترقيم والمسافة بين الكلمات والجُمل.. حيث لا علامات ترقيم ولا مسافات بين القطع! كأن هذا السيل من الكلمات قد خُلق هكذا على هيئته.. قطعة صماء من الكلمات ملصوقة على جدار ورقي أبيض.. إستشعرت بعد ذلك أن كل القواعد بلا قيمة.. حتى طريقة الكتابة ذاتها كأنها تندمج مع حالة العمى وتتوحد معها..
يلفت نظرنا ساراماجو بخفة سرد غير طبيعية و سخرية كبيرة من أمور دقيقة إعتبرناها مع الوقت مُسلمات حياة وبديهيات.. نعم.. أنت تنظر إذاً فأنت ترى! أليس كذلك؟! حسناً سيأخذ منك هذه البديهية أيضاً.. سيغرقك في عمى أبيض أنت وكل العالم.. ويمسك الجميع من شعر رأسه ليرج العقول ثم يخبطها في الجدار لتدور حول نفسه في إعياء لتظهر ما عندك على حقيقته.. غرائزك وقيمك تتصارعان والجمهور كله يتفرج.. لا يفوتني أن أقول لك هنا أن كل الجمهور من العميان أيضاً!
يأخذك سارماجو من يدك لتشاهد تطور المرض من كونه ظاهرة فردية ثم إنتقال عدواه من شخص لأخر ولكل حكايته.. ولكل ظروفه وظروف وراثته للمرض.. تتسارع الأحداث بسرعة تصاعدية ولا تسير على وتيرة واحدة حتى تصل إلى الإنفجار.. عند كل محطة تتوقع أنه سيتوقف الجحيم عند هذا الحد.. لكن سارماجو يفاجأك كثيراً بأن الحد بعيد جداً عن خيالك الأن!
” إذا كنت تستطيع أن ترى, أنظر. لو كنت تستطيع الرؤية, راقب ” تلك الجملة بدت لي كتحريض.. إنه ليس العمى في حد ذاته هو المقصود.. المقصود هو نحن!
من خلال ظاهرة العمى المُباشرة في الرواية.. الصادمة في معرفتنا بأنفسنا وبالعالم.. ومن خلالها كحالة رمزية للبشرية والتاريخ يناقش سارماجو كثير من القيم والأخلاق و الظواهر.. يناقش الحدود و الهجرة.. الأخلاق والغرائز.. الحاجة والضرورة.. ما هو ما تملكه حقاً.. ما هو الإنتماء.. حتى صوت السلطات سواء السياسية أو الدينية التي تمثلت في مايكروفون يُملي الوصايا من بعيد..
” اننا في حالة مستحيلة. إنها مستحيلة مُذ دخلنا هذا المكان, ومع ذلك لا نزال مستمرين في تحملها.. “
الإنحطاط الإنساني وقت الأزمة.. حيث لن يراك أحد ولن يعرفك أحد.. يسقُط كل الزيف الإجتماعي.. من لديه قيم حقيقية وقتها فهي له.. ومن كانت قيمه مُجرد قناع يرتديه ليرى الناس منه ما ليس فيه فيتعرى تمامً ليُبرز البراز الذي بداخل نفسه! يفاجئك سارماجو بما يمكن أن يفعله الناس حين تسقُط كل الأقنعة.. يصل بك إلى قاع المُستنقع الأخلاقي.. لم يفته هنا أن يصف لك كل زاوية من حولك في المكان المليء بالقذارة – الجسدية هذه المرة – حتى تكاد تختنق من رائحة العطن.. وقبل أن تغرق في اليأس بثوان يمد لك يديه ويوجه عينيك لأفعال إنسانية صغيرة وضعيفة في ظاهرها.. في موقف صغير.. في عطف صادق بين إثنين ليس الغرض منه رياء الناس.. كلمة بسيطة وسعادة حقيقية من أبسط الأشياء..  لكنها تُبقي بعض الأمل لمُستقبل ما..
لم يهتم سارماجو أبداً بتقديم سبب ما لحالة العمى.. لا هو ولا حاولت بطلة الرواية ” كل ما نعرفه عن أسمها أنها زوجة الطبيب ” أن تفُسر.. المُبصرة الوحيدة.. لماذا حتى هي بالذات لم يصيبها المرض؟ أسئلة كثيرة يتركك معها ومع المُبصرة الوحيدة التي كانت كالنبي المُبصر في مملكة كاملة من العميان..
وفي أخطر فكرة تم تمريرها في الرواية – بسرعة خاطفة – هو رؤية سارماجو لسبب رحيل المرض تدريجياً.. حين رسم قس الكنيسة الطلاء الأبيض على أعين الملائكة المرسومة على جدران الكنيسة.. ووصفه..
” لابد أن ذلك القس قد اقترف أسوأ تدنيس للمقدسات في كل العصور والأديان, إنه الإنسان الأكثر عدلاً وتطرفاً, يدخل إلى هنا ليعلن أن الله الكلي القدرة ليس جديراً بأن يرى.. “
حينها ظنت زوجة الطبيب أنها عميت هي الأخرى.. فرأت البياض قد غطى السماء وحجبها عن الأرض كأن السماء هي من أصابها العمى الأن.. بعد أن تحول الناس بعد اليأس عن الإستجداء بالسماء والسُلطات.. إلى الإيمان بأنفسهم وبإنسانيتهم.. فيفتح بذلك الطريق ويضيء بعض النور.. بأن العمى ليس عمى العيون.. ولكنه عمى البصيرة.. والبصيرة هو إسم الجزء الثاني المُكمل للرواية..
الرواية تُحفة فنية بمعنى الكلمة.. ولا يهم إن إختلفت مع فلسفتها أو إتفقت.. فهي تستحق القراءة والفهم والإستمتاع..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *