أيمن الجندى يكتب | «المجذوب»
الصدفة وحدها هى التى جعلتنى أدخل هذه البلدة الصغيرة المطلة على الساحل، بعد أن أتعبتنى القيادة لساعات طويلة. على مقهى صغير جلستُ أستعيد قواى وأتهيأ للسفر. طلبت شايا فجاءنى صاحب القهوة بنفسه، وقد خمن أنى غريب. وتبادلنا الحديث، وأبدى فضولا كى يعرف سبب مجيئى لبلدتهم المنسية، وأحس بالارتياح، حين أرضيت فضوله، وبدا على وشك القيام ومتابعة أحوال القهوة، حين سمعت صوتا زاعقا قادما من بعيد.
وتوتر وجه الرجل حين وجدنى أحدّ النظر متأملا القادم. فشعرت أن هناك سرا وراء ارتباكه. وشرعت أرمق صاحب الصوت الزاعق وهو يمر بجوارى، كان يبدو كالمجذوب! ومضى وهو يقول بصوت متهدج: «يا نور وجهك»! ويصمت قليلا، ثم يعاود: «يا نور وجهك»!
ونظرت إلى صاحب المقهى طالبا التفسير. نظر نحوى مترددا، ثم اعتدل على الكرسى الخشبى، وبدأ يحكى: «منذ بضع سنوات، كان بلدتنا تموج بالصراعات. عائلات بأكملها تشتبك مع عائلات أخرى. يتساقط القتلى. تتزايد المظالم. الكل يزعم أنه مظلوم! الكل يؤكد أن الله ناصره، وأنه على الحق المبين. الجميع يهددون بيوم القيامة الذى نؤمن جميعا بقدومه، ولكنه بدا لنا أبعد مما نحتمل! والتبس علينا الأمر، ورحنا نتضرع إلى الله أن نعرف من الظالم ومن المظلوم! أن تعطينا السماء إشارة، مجرد إشارة، كى تتضح المواقف، وتستبين الأمور.
وفى وقت واحد، شعرنا كلنا أن الله يستجيب. تواترت الرؤى فى البلدة كلها أن ننتخب منا شخصا حين نُدفع إلى المسجد وقت صلاة الفجر، ويكون أولى بالمعرفة، يفسر لنا ما أُغمض علينا من أمر السماء. وهكذا وقع اختيارنا على شاب صالح، قليل الذكاء، ولكنه متعلق بالمساجد. والأهم أنه لا ينتمى إلى العائلتين المتخاصمتين. قاومنا الشاب، حاول أن يتنصل، شعر بالخوف، من أنا حتى أعرف؟ لكننا دفعناه دفعا. ووقفنا خارج المسجد، وقلوبنا وجلة، شاعرين بالتهيب أننا اقتحمنا السر المكنون. وفجأة أرعدت السماء رغم أننا لم نكن فى موسم الأمطار، وومض البرق، وأغمضنا عيوننا هلعا وجزعا، حين رأينا أعمدة من النور تخترق الشاب الصارخ المسكين.
ولبثنا نشعر بالخوف الشديد. حتى سمعنا صرخة الشاب الذى خرج من المسجد بحال غير الحال. اقتربنا منه فى وجل، فصرخ فى وجوهنا بالجملة التى سمعتها: يا نور وجهك! ارتجفنا من الهول. حاولنا أن نستوقفه فأبى. مزقنا ثيابه، فلم يبال. سألناه عما رأى، فصرخ. استفسرنا عن المخطئ والمصيب! عن الظالم والمظلوم! عن القاتل والمقتول! عمن يؤيده الله ومن يخذله، وهو لا يجيب إلا بكلمة واحدة: يا نور وجهك!
وسكت صاحب المقهى، ونظرت إليه مستحثا أن يكمل الرواية! ابتسم قائلا: ولكنها انتهت بالفعل. قلت مندهشا: والفريقان المختصمان؟ من فيهما أولى بالله- تعالى؟ رد ببساطة عجيبة: من يهتم؟! لا علم لى. قلت ودهشتى تتفاقم: والشاب الصالح؟ رد فى هدوء: يهيم فى طرقات البلدة لا ينطق إلا بهذه الكلمة (يا نور وجهك!). قلت مندهشا: هل عرف؟ قال فى ثقة: بالتأكيد عرف. قلت مذهولا: ولماذا لم يتكلم؟ قال باسما: ولماذا يتكلم؟ هتفت: هذه مهمته التى خرج من أجلها. قال فى أسف: كان الله فى عونه. ما عرفه كان أكبر من قدرته على الاحتمال. ضربت كفا بكف: والصراع؟ والقتلى؟ والظالم والمظلوم؟ أليس لكل ذلك شأن عندكم؟!
وإذا بصاحب المقهى يتخلى عن هدوئه فجأة، ويصرخ زاعقا: «يا نور وجهك!».