أيمن الجندى يكتب | غزل البنات
وصلنى من المهندس طارق الصيفى هذه الرسالة الرائقة:
بالرغم من أننى أحب حلوى “غزل البنات” وأستمتع بها وكنت أتعجب فى طفولتى من طعم هذا القطن الجميل، فإن هذا ليس المقصود من العنوان. وقد يظن البعض أنى أقصد مشاعر الحب والعاطفة عند البنات وأسرارهن وحكاياتهن، ولكنه أيضا ليس المقصود! إننى أتكلم عن فيلم “غزل البنات”. وإلى كل من يرغب فى أن يعطى عقله استراحة لمدة بسيطة من طوفان الأخبار المزعج، أن يقرأ هذا المقال.
لو أردت أن أجد كلمة واحدة فقط لوصف الفيلم، فإن كلمة “الرقى” ستكون هى الأنسب. رقى فى الحرفية الفنية ورقى فى الذوق العام. ورقى فى اختيار أبطال أسطوريين أصحاب موهبة خارقة وشعبية جارفة ووضعهم مع بعضهم البعض فى سياق يزيد كل منهم من روعة الآخر، مرورا بالتصوير والإضاءة المبهرة والصوت الواضح المدروس الذى أبرز جمال الأغانى ووظف أغانى الفيلم فى السياق الدرامى بحرفية شديدة. نزولا لأدق التفاصيل مثل ملابس الممثلين والحركات الإيقاعية للمجموعات أثناء الأغانى وغير ذلك الكثير.
لن أتعمق فى الفنيات لأننى لست بناقد فنى، ولكنى مشاهد متذوق! ولكن هل لاحظت الإضاءة فى الفيلم والتى وظفها “عبد الحليم نصر” مدير التصوير لتكون بطلا من أبطال الفيلم. إن الإضاءة نجحت فى صنع هالة خفيفة من الضوء على وجوه الممثلين فى بعض المشاهد لتجعلك تكشف الشخصية وتقرأ أفكارها وتفهم مشاعرها. ولكى تفهم مدى الحرفية فى هذا الشىء عليك أن تتذكر أن مصورين كبارا حاولوا تقليد هذه الهالة بعد خمسين عام فى مسلسل “ضمير أبلة حكمت” وفشلوا.
السيناريو كان لأنور وجدى والحوار كان لنجيب الريحانى. وأجمل ما يمكن أن يُقدم فى أى سيناريو وحوار أن يجعلك تشعر أنه لا يوجد سيناريو ولا حوار، ولكن تخرج الكلمات عفوية من أبطال العمل، وفى الوقت نفسه يخرج الحوار راقيا ومهذبا وثريا. وأعتقد أن كلا من أنور وجدى ونجيب الريحانى قد تضافرا ليضع كل منهما لمسته: أنور وجدى يهتم بالأكشن والمجموعات الراقصة، ونجيب الريحانى يمارس تخصصه فى خفة الدم والكوميديا السوداء.
أغانى الفيلم كانت أيقونات الفن المصرى فى عهده الذهبى، وأغانى ليلى مراد «الحب جميل» و«ماليش أمل فى الدنيا دي» كفيلة بتصفية ذهنك وتجميد همومك للحظات، أما أغنيه “عاشق الروح” فلعلها من أروع أغانى عبد الوهاب على الإطلاق.
وعن أداء الممثلين فإنه السهل الممتنع. هل لاحظت نظرات الحب فى عينى ليلى مراد لأنور وجدى وكيف كانت تبدو مسلوبة الإرادة؟ وهل ما فعله أنور وجدى أشعرك أنه دور ثانوى لم يزد على عشر دقائق! وهل يوسف وهبى بنظرته الخاطفة على أعماق الأستاذ حمام لم يشعرك بأنه رائد فن المسرح؟ وهل فردوس محمد كانت تمشى وتتكلم فى بيتها أم تمثل فى الأستديو؟ ألم يكن الرائع نجيب الريحانى يقف على نفس المرتبة العالمية مع أنتونى كوين وروبرت ريدفورد ومارلون براندو؟
من العجيب أن تتمكن السينما المصرية من صناعة فيلم بهذه الجودة والحرفية العالية فى هذا الوقت (إنتاج عام ١٩٤٩) ولا تتمكن من الوصول للعالمية بكل سهولة بعد هذه السنوات الطويلة. ولكن بالطبع من يتابع الانزلاق إلى أسفل فى كل المجالات لا يتعجب! ربما يتحسر.