أيمن الجندى يكتب | نفى أبى زهرة للنسخ في القرآن
للمرة الأولى أعرف أن الإمام الفقيه «محمد أبوزهرة» قد نفى نفيا قاطعا وجود أى ناسخ ومنسوخ فى القرآن الكريم، وذلك ما قرأته فى تفسيره «زهرة التفاسير». وقد بلغ من اهتمامه بتوضيح هذا الأمر أنه ذكره فى المقدمة، ثم عاد إليه فى تفسير الآيات التى تعارف المفسرون أنها تٌشرّع للنسخ مثل قوله عز من قائل: «ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها. ألم تعلم أن الله على كل شىء قدير». فأوضح أن لفظ «الآية» لم يذكر فى القرآن إلا بمعنى الآية الكونية أو المعجزة الحسية (فأت بآية إن كنت من الصادقين).
ما أهمية هذا الاكتشاف؟
أولا: إن كنت قرأت هذا المعنى فى كتابات المفكرين المعاصرين فاعلم أن أبا زهرة قد سبقهم إلى ذلك بنحو أربعين عاما أو أكثر.
ثانيا: مع الاحترام للجميع فإن القيمة العلمية لأبى زهرة لا تُقارن بأى كاتب معاصر آخر. ليس فقط لأنه قادم من قلب الأزهر، ولكن لقيمته العلمية العالية. معروف أن علماء السنة والشيعة يسلمون بتمكنه الفقهى حتى الذين يعارضون أراءه فإنهم يبدأون بالإشادة به! معلوم أنه قد أصدر ثمانية من أهم المراجع فى الفقهاء الثمانية (أبو حنيفة- مالك- الشافعى- ابن حنبل- ابن تيمية- ابن حزم الأندلسى الظاهرى- زيد بن على بن الحسين رأس المذهب الزيدى- جعفر بن محمد رأس المذهب الجعفرى) وبرغم تسامحه اللافت مع المذهبين الشيعيين فإنه فى نطاق البحث كانت له آراء لم ترق لعلماء المذهبين، فانبروا للرد عليه برغم إهمالهم للكتب التى تكفرهم. وما كان ذلك إلا لأن مثل الشيخ أبى زهرة لا يمكن تجاهل آرائه.
ثالثا: ونفى الشيخ القاطع لوجود ناسخ ومنسوخ فى القرآن الكريم برغم اعترافه أن رأى الجمهور ضد رأيه، لهو دليل جديد على شجاعته الفكرية المهولة. ودليل على ما لاحظته مرارا أنه حين يبحث أمرا فإنه يبحثه بالفعل متجردا من أى رأى مسبق. إنه يبحث عن الحقيقة فعلا بقلب مخلص محب لله ورسوله. إن العالم العابد لا يخشى فى الله لومة لائم. خصوصا وهو يملك أدوات الاجتهاد ويخلص نيته لله تعالى. بل إنه حين جهر برأيه فى عدم وجود رجم للزانى فى الإسلام فى إحدى المؤتمرات الإسلامية فإنه لم يعلن ذلك لوسائل الإعلام وإنما فى بيئة علمية خالصة بين أقرانه العلماء. وكان دافعه لذلك هو ما أعلنه أنه قد كبر سنه واقترب موته وخشى أن يسأله الله لماذا كتم العلم! قارن ذلك بما يفعله المغامرون الذين يخوضون فى الأمور العلمية الدقيقة دون أن يتسلحوا بأدوات الفقه والمعرفة. وكلنا شاهدنا فوضى الفتاوى والآراء الشاذة فى الآونة الأخيرة. يطرحونها ليس على العلماء وإنما عبر وسائل الإعلام من أجل الشهرة.
رابعا: إذا فالمجال مفتوح أمام العلماء الراسخين فى العلم فى بحث أى قضية فقهية مهما بدت محسومة. لقد تقبلت البيئة العلمية المحيطة به فى العصر الذهبى للأزهر آراءه الجريئة بمنتهى الهدوء والاحترام، وليس بالضرورة أن يكون اجتهاده صوابا.
ويبقى خامسا أن أشير إلى أن موضوع الناسخ والمنسوخ من الأمور التى يُهاجم الإسلام بسببها كثيرا. جيد أن يوجد رأى آخر، بحيث يمكننا أن نأخذ بأحد الرأيين ولا حرج. جزى الله شيخنا الجليل على جرأته فى الحق خير الجزاء.