التطور الدستوري في مصر | دراسة متميزة للمستشار محمد سعيد العشماوي
20 سبتمبر، 2013
القانون للجميع, رول الأخبار
151 زيارة
قد يقول قائل إن دراسة كهذه، دراسة متخصصة، تفيد رجال القانون ولا تصلح للقارئ العادي، وهو قول مردود بأن دور الفكر والمفكر هو تبسيط الدراسات المتخصصة لتكون في متناول الشخص العادي، فهذا وحده هو الذي يُوجد التنوير وينشره. خاصة إذا ما تعلق بالدستور والقانون حيث يلزم لكل فرد من أفراد الشعب أن يكون على دراية ودراسة لهذا وذاك، في عصر يستوي كل شيء فيه على القانون وينبني على حكم الدستور.
الدستور لفظ مشتق في اللغات الإنجليزية والفرنسية من اللفظ اللاتيني Constutis، وله معان متعددة، أحدها أن الدستور هو (النظام الأساسي للمبادئ” أو القواعد” التي تحكم أمة أو دولة أو منظمة أو مؤسسة أو شركة أو ما ماثل).
كما يعني(اللفظ): “الوثيقة التي تتضمن هذه المبادئ والقواعد”، حيث يقال: الدستور المصري أو: الدستور الفرنسي أو: دستور الولايات المتحدة، وهكذا.
اللفظ العربي (دستور) منقول عن اللفظ الفارسي دستور، والذي له نفس المعني، وهو ما يفسر أن اللفظ، مبنى ومعنى، لم يكن معروفا لدى العرب الأوائل، ولا المسلمين الأولين، حتى عهد قريب، ومن ثم لم يظهر في مفرداتهم اللغوية، وليس له أساس جذري في اللغة العربية.
في مصر، كما في بلاد عربية وإسلامية أخرى، فإن لفظي “الشريعة” و”الشرع” كانا وما زالا في بعض الأحيان، يُستعملان بدلا من لفظي الدستور والقانون. وفي الاستعمال الدارج للفظي الشريعة والشرع، فإن القصد هو الإشارة إلى القواعد القانونية التي وردت في القرآن الكريم وفي السُنّة النبوية، مع أن كلا اللفظين قد امتد في الحقيقة والواقع ليشتمل على القواعد القانونية التي وضعها الفقهاء، وهم بشر. أي إن لفظي الشريعة والشرع قد اتسع استعمالهما الدارج، عبر التاريخ، ليشمل ما نزل من الله وما صدر عن الناس( وهو الفقه)، فأصبح ثمت تمازج وتماشج بين “الشرع” و”الفقه” يصعب على الفرد العادي، وأحيانا على الخبير المختص أن يفصل ما بينهما، ويضع حدا بين هذا وذاك. ونتيجة لذلك فقد اختلط وتداخل المقدس(Divine) مع المؤنس (Human)، وصارا ممتزجين في صيغة واحدة.
عندما بدأت الدولة المصرية الحديثة عام 1805، فقد شرعت في تطوير المفاهيم والمناشط خلال عدة اتجاهات حضارية، كان منها إيجاد نظام قانوني عصري يتوافق مع الأوضاع الدولية، وهو ما تطرق شيئا فشيئا إلى وجود النظام الدستوري.
القانون لفظ روماني الأصل(نسبة إلى روما) مستمد من اللفظ اللاتيني Lex، الذي يعني القاعدة أو القواعد الموضوعة بواسطة السلطة (التشريعية) أو المستقرة عرفا في العلاقات الاجتماعية، لتكّون في دولة أو في جماعة أو في مجتمع معين، حكما ينظم أنشطة الناس ويفصل بينهم.
فالقانون، من ثم يعني، قاعدة واحدة، أو مجموعة من القواعد (مثل القانون المدني أو القانون الجنائي..إلى أخر ذلك)، أو مجموع النظام الذي يشمل كل القواعد القانونية، ومجموعات القوانين. بهذا المفهوم فإن القانون يكون على الدوام تعبيرا عن حالة المجتمع أو الدولة، كما يمكن أن يراها الملاحظ من خارج المكان أو المراقب من خارج الزمان (أي بعد مضي أمد، طال أو قصر).
إزاء التقدم والتحضر الذي وقع في مصر منذ بدء قيام الدولة الحديثة، فقد عمد كثير من المفكرين الأحرار إلى المطالبة بوضع دستور يكون على قمة النظام القانوني، فيضبطه ويحكمه ويشيع الانسجام بين مختلف مجموعاته وتطبيقاته، فضلا عما يؤدي إليه(الدستور) من ضبط أعمال السلطة، وكبح جماحها حتى لا تنحدر إلى قوة مطلقة استبدادية (والمثل يقول: القوة المطلقة مفسدة مُطـْلقة).
حدث التطور الدستوري في مصر عبر مراحل عدة:
1- كانت المرحلة الأولى هي الأمر الصادر في 27 نوفمبر 1824 من محمد علي باشا إلى محمد بك لاظوغلي رئيس المجلس العالي (1824-1837) عن تأسيس هذا المجلس وطريقة إدارة مناقشاته وحسن معاملة أعضائه.(وهو أمر صدر أصلا باللغة التركية ثم تُرجم إلى العربية بواسطة قسم المحفوظات التاريخية بالسراي الملكية عن الأصل المحفوظ ضمن وثائقها).
وفي بدايته يقرر الوالي أنه: “… كان من دأبنا إزاء كل أمر مما يتعلق بالمصالح المصرية، وتقتضي حكمة الحكومة بتنظيمه وتسويته أن يُجتنب عند البت فيه الانفراد برأينا والاكتفاء بحكمنا، بل نحوّله على المجلس وفقا لأصولنا المقررة وأسلوبنا المعلوم”.
وبعد هذه البداية، يرسم الوالي نظام عمل هذا المجلس، في عبارات مرسلة، أدنى إلى الوصايا التنظيمية منها إلى النصوص القانونية والقواعد التشريعية.
2- وكانت المرحلة الثانية هي صدور أمر بتاريخ 3 يناير 1825 من محمد علي باشا والي مصر، إلى أعضاء المجلس العالي، بعرض اللائحة الأساسية على المجلس لفحصها واتخاذها دستورا للعمل بها. (وهذا الأمر مثل سابقه صدر باللغة التركية وتُرجم إلى العربية بواسطة قسم المحفوظات التاريخية بالسراي الملكية، عن الأصل المحفوظ ضمن وثائقها).
وجاء في صدر الأمر: “لما كانت هذه الأمة الناجية قد نشأت على أن تسيّر شئونها – صورة ومعنى- على مقتضى ما ورد في معجز الذكر من قوله تعالى( وشاورهم في الأمر) وكانت مأمورة بالرجوع إلى أهل النظر تخاطبهم وتداولهم فيما اختصوا بعلمه من الأمور التي لا تفتأ تعرض لها وتطرأ عليها، فإن صاحب الدولة.. رأى.. أن ينعقد مجلس خاص يكون واجبه إيضاح جميع التفصيلات وتفهيمها.. لذلك صدرت إرادته.. بانعقاد هذا المجلس الخاص..”.
ثم فصّل الأمر بعد ذلك مهام النواب في المجلس، وأدوارهم في العمل.
وهذا الأمر، مثل سابقه، ورد في عبارات عامة وتقريرات مرسلة، لم تُفرغ في نصوص قانونية محددة ومتكاملة.
وفي الأمر، ورد لفظ (دستور) للمرة الأولى في مفردات النظام السياسي المصري.
غير أنه لما كانت لغة الأمر هي التركية، فإن اللفظ لم يدخل إلى الاستعمال العام في اللغة العربية. ويلوح أن استعمال لفظ “دستور” قد كان نتيجة التأثر بما كان يدور ويحدث في السلطنة العثمانية آنذاك.
3- وكانت المرحلة التالثة هي إصدار قانون ترتيبات المجلس العالي في 12 يوليو 1833. وفي هذا القانون، وللمرة الاولى، ظهر استعمال لفظ (قانون) في نطاق الفكر الدستوري، كما أُفرغت أحكامه في تسعة بنود أو مواد، مفصّلة ومحددة، يتضمن كل منها حكما خاصا. وبهذا تجاوزت الأوامر والمراسيم تلك اللغة المرسلة ذات العبارات الإنشائية التي تبدّت في الأمرين السابقين.
الخديوي إسماعيل
4- ثم جاءت المرحلة الرابعة، وكانت أكثرها أهمية، في عهد الخديوى اسماعيل، إذ صدرت في 22 اكتوبر 1866 لائحة تأسيس مجلس شورى النواب وانتخاب أعضائه، وكانت هذه اللائحة تقوم على صياغة قانونية عصرية، في نصوص محددة ومفصّلة، بما يفيد أن أسلوب صياغة القوانين وفقا للنظام الحضاري الحديث قد بدأ يظهر ويستقر في مصر، بدلا من العبارات الإنشائية، والكتابات المرسلة.
الخديوي توفيق
5- وتلت ذلك المرحلة الخامسة، في عهد الخديو توفيق، إذ صدرت بتاريخ 7 فبراير 1882 ما سُميت (اللائحة الأساسية)، وهي خاصة بانتخاب أعضاء مجلس النواب، وأن كل نائب يعتبر وكيلا عن عموم أهالي القطر المصري لا عن الجهة التي انتخبته، وطريقة عمل النواب. ويلي ذلك تحديد مسئولية النظار (الوزراء) وأنهم متكافلون في المسئولية أمام مجلس النواب، هذا فضلا عن تحديد أسلوب فرض الضرائب، وميزانية الحكومة.
اللجنة الثلاثينية التي وضعت دستور 1923
6- كل هذه المراحل كانت مقدمات وموطـّئات تتواصل نحو الإنجاز العظيم الذي حدث نتيجة ثورة 1919 وأدى الى صدور الدستور المصري في 19 ابريل 1923. ويتضمن الدستور 170 مادة، تفصّل وتحدّد كل ما يتعلق بالوضع السياسي والإداري والقضائي، وتتضمن أحكاما ومبادئ وقواعد عصرية، تقوم على المعايير الدولية، والمبادئ الأساسية، التي انتهى اليها الكفاح الانساني، عبر قرنين سابقين على صدور الدستور.
والمبادئ الاساسية لهذا الدستور تتحصل فيها ما يلي:
أ- مصر دولة ذات سيادة وهي حرة مستقلة.
ب- المصريون لدى القانون سواء، وهم متساوون في التمتع بالحقوق المدنية والسياسية وفيما عليهم من الواجبات والتكاليف العامة لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الأصل أو اللغة أو الدين.
ت- الحرية الشخصية مكفولة.
ث- لا جريمة ولا عقوبة الا بقانون.
ج- عقوبة المصادرة العامة للأموال محظورة.
ح- حرية الإعتقاد مطلقة.
خ- حرية الرأي مكفولة.
د- الصحافة حرة والرقابة على الصحف محظورة.
ذ- جميع السلطات مصدرها الأمة.
ر- الملك يتولى سلطته بواسطة وزرائه.
ز- مجلس الوزراء هو المهيمن على مصالح الدولة.
س- لا يلي الوزارة الا مصري ولا يلي الوزارة أحد من الأسرة المالكة.
ش- يتكون البرلمان من مجلس الشيوخ ومجلس النواب، وعضو البرلمان ينوب عن الأمة كلها.
ص- القضاة مستقلون… وليس لأي سلطة في الحكومة التدخل في القضايا.
ض- لا يجوز عقد قرض عمومي الا بموافقة البرلمان.
ط- الميزانية الشاملة لإيرادات الدولة ومصروفاتها يجب تقديمها الى البرلمان لفحصها وإعتمادها.
ظ- الإسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية.
هذا الدستور المصري المتقدم، كما يبين من أحكامه السالفة، ظل نافذا لمدة سبع سنوات فقط. وفي 23 أكتوبر 1930 استُبدل به ما يُسمى بالدستور المصري الذي كان أقل تحرراً (ليبرالية) وكان أكثر تسلطا (أوتوقراطية).
وظلت جماهير الشعب بقيادة “الوفد” المصري دائمة التظاهر وهي تطالب بعودة العمل بدستور 1923. وبعد عدة سنوات من الكفاح نجحت جهود الشعب و”الوفد”. ففي 12 ديسمبر 1935 أعيد العمل بدستور 1923.
وفي 16 اكتوبر 1951 عُدّل هذا الدستور لتغيير لقب الملك كي يكون ملك مصر والسودان. وهو الأمر الذي أحفظ بريطانيا بشدة. وجاء في كتاب “ثورة مصر” الذي صدر عن دار نشر حكومية عام 1954، أن بريطانيا خشيت من ترسخ هذا اللقب واعتراف الدول به، فكان أن شجعت حركة الجيش، والتي أدى تصرفها الى فصل السودان عن مصر عام 1956.
7- في 23 يوليو 1952 وقع الإنقلاب العسكري. وفي 10 ديسمبر 1952 صدر إعلان من القائد العام للقوات المسلحة بصفته رئيس حركة الجيش أسقط دستور 1923 واستـُبدل به مبادئ عامة تحت عنوان (إعلان دستوري) في 17 يناير 1953؛ يتكون من 11 مادة، مجملة، يتولى بمقتضاها قائد الثورة ومجلس قيادة الثورة أعمال السيادة العليا، وبصفة خاصة التدابير التي يراها ضرورية لحماية هذه الثورة والنظام القائم عليها لتحقيق أهدافه، وحق تعيين الوزراء وعزلهم. كما يتولى مجلس الوزراء السلطة التشريعية.
ومؤدى هذا الإعلان، إلغاء حق الأمة في الحكم والتشريع، وتركيز أعمال السيادة، وأفعال السلطة والتشريع في يد الضباط الانقلابيين الذين ابتدأوا فسموّا عملهم الإنقلابي “حركة”، ثم غيروا الاسم من “حركة الجيش” في 10 ديسمبر 1952 الى “ثورة الجيش” في 10 فبراير 1953(أي في مدى شهرين). وأطلقوا على مجموعتهم اسم “مجلس قيادة الثورة”، أي ثورة الجيش، كما جاء في عنوان الإعلان، وصار هذا المجلس يقبض على أعمال السيادة وأعمال السلطة والتشريع، في كل أصل وفرع، تقديرا وتطبيقا، دون أي قيود او حدود، وبغير ما ضابط أو رابط.
وكان التحول من تعبير “حركة الجيش” الى تعبير “ثورة الجيش” إنسياقا لمقال كان قد كتبه أستاذ للقانون الدستوري، ونشرته جريدة الأهرام، يزعم فيه أن ما حدث بمقتضى حركة الجيش هو عمل ثوري، وأن فقه الثورة يبرر لقيادة الحركة أي قول أو فعل، وأي تحرّك أو تصرف، مهما كان معارضا للدستور مناقضا للقانون. وهو تبرير قانوني تلقفه الإنقلابيون أصحاب الحركة فغيروا إسم حركة الجيش الى ثورة الجيش، ليتمتعوا بمقتضى هذا الوصف الجديد بحق التحلل من قيود الدستور وحدود القانون، وهو أمر استمر طويلا، وعبر عنه أحدهم فقال: “إن القانون في إجازة”. ومعنى غياب حكم القانون هو سيادة فعل أو رد فعل النزوة، وسيادة أعمال العنف السلطوي والعنف المادي والعنف الكلامي، مما كان له أسوأ الأثر، خاصة وأن الغوغاء تتعلق بعلو الحناجر ومكاسب الكلام، مما أدى الى تحول الكفاح المصري والعربي الى هبّة صراخية.
8- جاءت المرحلة التالية في 16 يناير 1956 حين أُعلن دستور الجمهورية المصرية. وقد ابتدأ بديباجة إنشائية، ثم تضمن المبادئ والقواعد التالية: مصر دولة عربية ذات سيادة.. والشعب المصري جزء من الأمة العربية، السيادة للأمة، والاسلام دين الدولة واللغة العربية لغتها الرسمية، التضامن الإجتماعي أساس المجتمع المصري، يُنظم الاقتصاد وفقا لخطط مرسومة، يُستخدم رأس المال في خدمة الاقتصاد القومي، العدالة الاجتماعية أساس الضرائب والتكاليف العامة، يتولى رئيس الجمهورية السلطة التنفيذية، وهو الذي يعين الوزراء ويعفيهم من مناصبهم، يتولى مجلس الأمة السلطة التشريعية، ولا يجوز لهذا المجلس إجراء أي تعديل في مشروع الميزانية المعروض عليه الا بموافقة الحكومة، يكوّن المواطنون إتحادا قوميا للعمل على تحقيق الأهداف التي قامت من أجلها الثورة، ويتولى الاتحاد القومي الترشيح لعضوية مجلس الأمة، كما يقوم هذا المجلس بترشيح الجمهورية فيُعرض الترشيح في استفتاء عام.
بهذا الدستور صارت مصر جمهورية رياسية، لا يكون رئيس الجمهورية فيها مسئولا أمام أي جهة، رغم أنه يملك ويحكم. كذلك فإن مجلس الامة قد فقد أي حق في إجراء أى تعديل في الميزانية، ولم يعد له الا أن يوافق عليها، مع أن تاريخ المجالس النيابية يفيد أنها قامت أصلا من أجل مراقبة الميزانية، وقيل في ذلك No Taxation Without Representation أي “لا ضرائب دون تمثيل نيابي في مجلس”، هذا فضلا عن إلغاء مبدا التعددية السياسية وحصر العمل السياسي في الإتحاد القومي الذي يتولى ترشيح الافراد لعضوية مجلس الأمة، بما يعني عدم الحرية في الترشيح.
ومفاد ذلك كله أن التحررية (الليبرالية) التي كانت الأساس في صياغة دستور 1923 قد انتهت، وحلت محلها شمولية مطلقة.
وفي هذه الشمولية ينحصر العمل السياسي والاداري والتنفيذي في رئيس الجمهورية وحده ، ومجموعة تتحلق حوله. فهو الذي يقوم عمليا بترشيح أعضاء مجلس الشعب، الذين يقومون بدورهم بتسميته للإستفتاء العام، مع استبعاد الشعب كله وانتفاء الصدق والشفافية في أي استفتاء أو إنتخاب.
9- إثر الوحدة بين مصر وسوريا، أُعلن في 5 مارس 1958 دستور مؤقت من 73 مادة، سمى الدستور المؤقت للجمهورية العربية المتحدة. وبعد فصم الوحدة بين مصر وسوريا صدر في 27 سبتمبر 1962 (إعلان دستوري عن التنظيم السياسي للسلطة العليا للدولة) ، كان التغيير الأساسي فيه هو تنظيم مجلس رياسي جنبا إلى جنب مع رئيس الجمهورية.
في 25 مارس 1964 صدر دستور جديد أطلق عليه دستور 1964، وكان دستورا شموليا كدستور 1956 عدا أنه وصف مصر بأنها دولة ديمقراطية إشتراكية (إيذانا بالدخول الى الفترة الاشتراكية، وهي في الحقيقة رأسمالية الحاكم).
10- في سبتمبر 1971 صدر الدستور النافذ حالا(حاليا)، وقد طُرح في استفتاء عام- مع عدم قيام حملة قانونية محايدة لشرح أحكامه للشعب- وأُعلنت نتيجة الإستفتاء بالموافقة عليه في 12 سبتمبر 1971. وقد نصت المادة الثانية منه على أن (مبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع)، ثم عُدلت المادة في مايو 1980لتكون (مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع). ونظرا لأن الدستور صدر دون مذكرة إيضاحية، فإن هذا النص أثار وما يزال يثير مشاكل كثيرة؛ لعدم وضوح أو تحديد المقصود بمبادئ الشريعة الإسلامية.
على مدى السنوات، منذ أعلن هذا الدستور وحتى الوقت الحالي، حدث تغير جذري في هذا الدستور دون تعديل شرعي له. ذلك بأن الدستور يقوم على مبدأين أساسيين هما نظام الحزب الواحد، والنظام الإقتصادي الاشتراكي. غير أن هذين النظامين تغيرا الى النقيض تماما، حيث صارت التعددية الحزبية أساس النظام السياسي، كما تحول الإقتصاد الى مبدأ “الإنفتاح”، ثم انتهى الى النظام الراسمالي الكامل. وكانت نتيجة هذا التحول الجذري أن أصبح كثير من مواد الدستور غير نافذ ولا فعّال، لانها تتعلق بالنظامين اللذين أُلغيا فعلا، نظام الحزب الواحد والنظام الاشتراكي.
وفي مصر الآن يوجد دستوران: الدستور المكتوب، وهو دستور 1971، وبه مواد عديدة لم تعد نافذة أو فعالة أو يمكن تطبيقها، ودستور غير مكتوب يتكون من الواقع الفعلي الذي عدّل الدستور، وصار بمثابة سوابق. ونتيجة لهذا الوضع الغامض والغائم أن اهتز حكم الدستور بشدة، وصار مختلطا مبلبلا، حتى على المحكمة الدستورية العليا. إذ لا يمكن لأي فرد أو مؤسسة أن تجزم بأن قاعدة ما هي قاعدة دستورية، خاصة وأنه يمكن تقديم أدلة على دستورية أي قاعدة، كما يمكن تقديم أدلة على عكس ذلك تماما.
وما دامت كثرة من مواد الدستور مُعطلة بالفعل والواقع، والسوابق الدستورية ليست واضحة قاطعة، كما أنها غير متكررة أو متواترة لتصبح سوابق بالمعنى القانوني (Precedents) والمحكمة الدستورية العليا تلجأ الى فكرة “الملاءمة” التي تجعل من تقديرها لملاءمة قاعدة ما أو عدم ملاءمتها لرؤيتها هي، كل الاساس في الحكم بدستوريتها أو عدم دستوريتها ، فإن المجال الدستوري يصبح بصفة عامة قلقا.
من الواضح أن لا دستور في مصر قد استمر نافذا لمدة طويلة، أو أن أحكامه قد احترمتها كل القوى السياسية. ويعود ذلك إلى أسباب كثيرة منها يلي:
أ- ما ينتشر في مصر (والبلاد العربية) من التضامن القًبلي والعشائري الذي ينكر ويرفض حكم القانون، بما في ذلك الدستور. واللفظ الذي يستعمله كل العرب، بمن فيهم المصريون، لوصف جمعهم هو لفظ (أمة)، وهو لفظ دخل إلى اللغة العربية من اللغة العبرية ويعني القبيلة أو الجماعة.
وما دام هذا اللفظ يشيع في الاستعمال فإنه ولابد أن يستدعى بمفهومه ومدلوله أسلوب القبيلة التي تلتزم أفرادها إتباع ما يشير به رئيس أو زعيم أو شيخ القبيلة، بدلا من إتباع مجموعة مكتوبة من القواعد، تُفرغ في قوانين، تناسب نظام الدولة، لا الوضع القبلي العشائري.
ب- والناس (في هذه البلاد) جُبلوا وطبعوا، من خلال ثقافة متوارثة، على أن يروا رئيس الدولة ولا يروا الدستور، يلحظوا القاضي ولا يلحظوا القانون، يخشوا رجل الإدارة ولا يحترموا نظام العمل.
ج- والناس في هذه البلاد أساري التقاليد الشمولية التي لا تسمح بأي هامش من الحرية أو الخصوصية أو التعددية أو خلاف الرأي أو حركة العقل أو ما ماثل.
وفي هذه الوضعية التراثية الشمولية لا توجد حاجة إلى دستور ولا حتى قانون، فهي لا تستعمل هذا ولا ذاك، ولا تكافح للحصول على أي منهما، بل إنها تنظر الى الدستور كترف ليست في حاجة إليه.
د- وفصائل الإسلام السياسي تهاجم باستمرار، وتعمل على تقويض، النظام القانوني ومفاهيم القانون والدستور، وتومئ إليهما على أنهما شكل من أشكال الغزو الثقافي الغربي. وهم يزعمون أن القرآن دستورهم، ولا يعرفون أو يعرفون ولا يعترفون، بأنه لا توجد في القرآن آية أو قاعدة تنظم وتحكم العمل السياسي، أو تضع وتحدد شكل الدولة. وكل ما ورد في ذلك عمل فقهي بشري، كان يستوي أصلا وعملا على مفهوم “الأمة” (القـَبَلي) وليس على مفهوم “الدولة” بالمعنى الحديث.
ولكي ما يكون ثمت حكم للقانون، بما في ذلك النظام الدستوري، سواء في مصر أم في البلاد العربية، لابد من إحداث تنمية بشرية علمية واعية فعالة، تهدف أساسا إلى مكافحة الأمية السياسية والثقافية، كما تعمل على مكافحة الأمية الأبجدية سواء بسواء. ومتى تعلم الناس وتثقفوا، بصورة علمية صحيحة، فإنهم سوف يكونون قادرين على تمثل وتقدير مدى أهمية قيام واستمرار مجتمع مدني، يستوي على حكم القانون الذي لابد أن يستقر على دستور حديث.
* تعريب لمحاضرة ألقيت باللغة الإنجليزية في جامعة هارفارد بالولايات المتحدة بتاريخ 25 أكتوبر 1999، وهو من ثمت لا يشمل التعديلات الدستورية التى تمت بعد تاريخ المحاضرة.