حدث ذلك منذ عشرين عاماً.
كان الشتاء قد أقبل بغتة. قبلها كان الجو يتراوح بين الدفء والاعتدال. وفجأة هبت الريح تجلب معها البرد ورائحة الماء. تغسل الأمطار بيوت المدينة، وتغسل معها الأشجار والقلوب الحزينة، وتهمس قائلة:
«الشتاء جاء فاحبّوا وافرحوا».
مازلت أذكر هذه الليلة. بعد ثلاثة أيام من الأمطار المتواصلة هدأت العاصفة. ارتديت أجمل ثيابى ونثرت العطور على وجهى وملابسى. ثم نزلت لاحتفل بالشتاء فى نحو التاسعة مساء.
كانت المدينة منكفئة على نفسها. والطرقات مغمورة ببرك الماء. والوحل يكسو الأرصفة. ونظرت إلى الحذاء فى اهتمام. لسبب ما كنت أهتم فى هذه الفترة من حياتى بأن يكون حذائى لامعا. وكنت أشعر بسرور بالغ حينما أجد حذائى لامعا بدون نقطة طين واحدة فى الليالى المطيرة. كان الزمان غير الزمان، وكان الكروان يجلجل كل مساء فى سماء المدينة. وكانت أمى هناك بكل ما يعنى ذلك من أمانٍ وأمل. وكنا نشعر بالغضب حين نرى بعض القمامة. ولم يكن واردا وقتها أن يُطلق الرصاص فى الطريق، أو تعتبر نفسك محظوظا لأنك عدت إلى بيتك قطعة واحدة.
كان البدر باردا ومكتملا. وكنت أشعر بسعادة شديدة. لم يكن سواى تقريبا فى الشارع. كان الهواء قد رق والسماء قد صفت والقمر يلون أطراف السحب باللون الفضى. فأدركت أن الحياة جميلة، وأننى خُلقت للحب، وأن السماء تزينها النجوم لتدخل السعادة على قلوبنا. وأردت أن أحتفل بالشتاء. ولمحت الضوء فى دكان الأحذية المجاور فاتجهت إليه دون تردد. صاحب المحل يعرفنى منذ طفولتى. ولم يكن هناك مجنون غيرى يهتم بتلميع الحذاء فى هذا الوقت. خلعته ودفعته إلى الصبى المتسخ الذى يوشك أن تختفى رأسه بين أكوام الأحذية. ورفعت قدميّ عن البلاط البارد فجاملنى صاحب المحل، بحكم المعرفة القديمة، وناولنى قطعة مستطيلة من الورق المقوى كى لا تتسخ جواربى.
وبدأ الصبى فى الترتيب المألوف: مسح الحذاء بقطعة قماش متسخة. ثم بدأ غمره بدهان أسود توطئة لكى يجففه. ثم وضع طبقة الورنيش. ثم شرع يمرر الفرشاة بقوة وسرعة. كانت أم كلثوم تغنى فى مذياع قديم. وكان الولد منكفئا من البرد. وسمعت صاحب المحل يشتمه. ورفع الصبى إليه وجها خائفا. ولسبب ما تمادى الأسطى فى غضبه. ولسبب ما انتفض من مجلسه فجأة وضرب الصبى ضربات متتالية. ثنى الولد كوعه ليحمى وجهه فهبطت الضربات على رأسه مُهينة قاسية. وأنا أراقب ما يحدث مأخوذا من المفاجأة. لا أدرى لماذا تطورت الأمور إلى تلك النهاية العنيفة؟. ولا أعرف ما الذى يجب أن أفعله؟ هل أتدخل؟ هل ألوم الأسطى على قسوته؟ أم أنصرف غاضبا؟.
وفى النهاية لم أفعل شيئا إلا أن ألزم الصمت المترقب. بمجرد أن عاد الأسطى إلى مقعده نكس الصبى وجهه لأسفل. ولمحت قطرات من الدموع تسيل على حذائى. مسحها الصبى بسرعة وعاد يمرر الفرشاة بقوة وسرعة، ثم سلمنى الحذاء سعيدا لامعا.
ولا أدرى إلى الآن كيف دفعت النقود إلى الأسطى؟ وكيف ارتديت الحذاء وخرجت به إلى الشوارع المبتلة؟ كان ضوء القمر يغمر المدينة بشعاع فضى ثابت! ولكنه بدا لى لحظتها باردا وحزينا. وبدون أن أحاذر مشيت بين أكوام الوحل بحذاء لامع وقلب منطفئ.