مر أحد أصدقائى عندما كان فى الخامسة والخمسين بحادث مروع كاد أن يودى بحياته- لقد قابل الموت وجها لوجه- وكان هذا هو «الحدث الأهم والأجمل فى حياتى كلها» حسب كلامه، كأن لقاء الموت كان العصا السحرية التى أعادته للحياة فأصبح مقدِّرا لقيمة اللحظة ومستمتعا بأشياء كانت عادية ومألوفة ولا تُرى. كما أفهمه الحادث أن الشفاء مسألة لا تقتصر على العلاج الطبى (الذى استمر عامين)، وإنما هو رحلة مستمرة تعتمد فى تطورها على القرارات الصغيرة التى يتخذها كل يوم.
لقد فهم أن الصحة لا تعنى الكمال المطلق والخلو الكامل من المرض أو الخلل الجسدى، لكنها تعنى قدرتنا على الخطو يوميا نحو الأفضل، وأن خطواتنا الصغيرة هذه لا تشمل فقط الاهتمام بالجسد والتفكير فى احتياجاته (بدلا من التعامل معه على أنه الموجود غير الموجود)، وإنما تستدعى الدخول إلى أعماقنا وطرح أسئلة عن الذات وعلاقتها بالعالم. لكن صديقى لم يفق من غيبوبة شهر ونصف فجأة ليجد نفسه شخصا آخر، فقبل لحظة الفهم مرَّ بفترة من الإنكار للإعاقة التى أصابت ساقه اليسرى المليئة بالشرائح والمسامير، ثم ذهب الإنكار وجاء الغضب: «ليه أنا؟»، وزاده الغضب مرضا على مرض، ثم تراجع الغضب وتركه يتأمل ما حدث كأنما الحكاية برمتها هى لشخص آخر.
وهنا بدأت الأبواب تتفتح. حكت لى زوجته أنها لاحظت عودته للقراءة (التى كان قد هجرها طويلا)، وبدأ يقضى أوقاتا فى التأمل والتفكير وفى حوارات معها حول أسئلة تشغل باله. استغربت الزوجة فى البداية التغيير الذى طرأ على زوجها الرجل العملى الذى لم يلتفت يوما إلى الأسئلة الوجودية. لكنها أنصتت إليه وهو يتحدث عن علاقته المعقدة بأبيه، وكيف أنه فشل فى التصالح معه وقبوله إلى أن توفى الأب، وأنه حزين بسبب هذا الجرح. تأملت الزوجة رقته وطريقة تعبيره عن ضعفه وشعرت أنها تقع فى الغرام من جديد مع نفس الرجل بفاصل زمنى أكثر من ربع قرن!
مخطوفة الأنفاس جلستُ أستمع إلى صديقى يحكى عن رحلة السنوات السبع الأخيرة بعد الحادث – يعيد تأمل تلك اللحظة المسحورة التى رأى فيها الدنيا من جديد. قال: «أدركت أن ما فعله الأطباء من لحام عظامى المدشدشة وإعادة أجزائى إلى ما كانت عليه كان معجزة لا شك. لكن المعجزة الأكبر حدثت عندما أدركتُ أن عليّ أن أفعل نفس الشيء مع حياتى. لابد أن أعيد تركيبها ولصق الأجزاء المفككة كى أرى صورة شبه كاملة، لقد فهمت مثلا أن جرحى من الحب الأول كان سببا فى إفشال عدة علاقات، وكان غضبى من أبى سببا فى توتر العلاقة مع ولديّ الاثنين».
عدت إلى بيتى فى هذا المساء وأنا أطفو فى سحابة ناعمة من البهجة، رأيت البدر مكتملا وقريبا جدا وشعرت بنبض الحياة يسرى قويا فى عروقى، وكان قلبى ممتنا لصديقى.
المصدر:المصرى اليوم