عمار على حسن يكتب | الدين والدولة فى إندونيسيا (1 – 2)
7 مايو، 2014
أقلام حرة, رول الأخبار
74 زيارة
عمار على حسن يكتب | الدين والدولة فى إندونيسيا (1 – 2)
لا تخطئ عيناك أبداً، أنك ذاهب إلى أكبر دولة مسلمة على وجه الأرض، حين تقتحمها أجساد ضامرة لنساء ملفوفات فى ملابس وسيعة فضفاضة، تملأ صالة الانتظار بمطار الدوحة، لكن حين تحط الطائرة فى مطار جاكرتا، وتنطلق الحافلة فى شوارعها الوسيعة النظيفة، التى تمرق بها سيارات يابانية من أنواع مختلفة، ترى عالماً آخر متنوعاً، فيه رجال قصار فى الغالب الأعم، ونساء سافرات ومحجبات، وبيوتاً ذات أسطح مائلة تستقبل مطراً طوال السنة تقريباً، وبنايات شاهقة، تحتضن متاجر دشنتها العولمة، لتجذب الطبقتين العليا والوسطى، وتفتح باباً للاغتراب فى بلد يتسم أهله بالبشاشة والسماحة والسكينة والإقبال المفرط على الحياة.
أنت هنا أمام تجربة شبيهة بالتجربة المصرية فى الستين سنة الأخيرة، وليس بالطبع فى آلاف السنين التى دب خلالها الآدميون على ضفاف النيل، «سوكارنو» يقابل «عبدالناصر»، حيث الاستقلال والبناء والعدل الاجتماعى والأحلام العريضة والاستبداد المقنع، و«سوهارتو» يقابل «مبارك» حيث التبعية والعجز والفساد والطغيان والترهل، الأول قامت ضده مظاهرات تطالب بالإصلاح فى عام ١٩٩٨، فأسقطته وبقى نظامه، لكن إصرار الناس على تحصيل الأفضل فى المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية حول الثمار إلى ثورة كاملة، لا سيما بعد الخروج التدريجى للجيش من الحكم، أما الثانى فقامت ضده ثورة عظيمة عام ٢٠١١، فسقط أيضاً وبقى نظامه يحاول أن يحول ثمارها إلى حركة إصلاح متدرج، لكن الحكم على النتائج النهائية والكلية ليس الآن بأى حال من الأحوال.
ذهبت إلى جاكرتا للمشاركة فى مؤتمر عن «الإسلام.. الدولة والسياسات» بدعوة من «معهد السلام والديمقراطية» التابع لجامعة أوديانا، فسمعت من أساتذة العلوم الإنسانية هناك شهادات وإفادات مبهرة عن «التمازج بين الإسلام والثقافة التقليدية»، وعن الدولة «اللاعلمانية واللادينية التى تعطى الدين وزنه فى الحياة وليس فى السلطة»، التى يثبت وجودها على سطح الأرض فى حد ذاته كذب مفهوم «الدولة الحارسة للدين»، و«قوة الدين فى حد ذاته كى يحرس نفسه»، إذ إن الإسلام لم يدخل إلى إندونيسيا بالفتوحات، إنما جاء فى ركاب التجارة والتسامح وقوة الحجة وصفاء العقيدة، فدافع عن نفسه دون وصاية من ملك، أو سلطان، أو أمير.
هناك تجد التدين ظاهراً فى سلوك الناس، وليس فى أزيائهم وادعاءاتهم رغم أن «الشعب الإندونيسى لا يعتبر الإسلام أساساً لقيام الدولة»، وفى الوقت ذاته لا يجد غضاضة فى «تطبيق بعض أقاليم الدولة للقوانين الإسلامية»، لكن بشكل عصرى بعيداً عن أضابير الكتب القديمة وخلافات فقهاء الزمن الغابر، وبصيغة تتعانق فيها الثقافات المحلية مع مقتضيات الشرع فى انصهار عجيب، وبطريقة تحول فيها الدين إلى طريق لحل المشكلات لا وسيلة لخلقها.
تركت «المول» والفندق وعبرت شارعاً واحداً إلى الأحياء الفقيرة جداً فى جاكرتا، بسطاء وفقراء لكن الحوارى نظيفة مرصوفة، وبنات يركبن دراجات بخارية ولا يؤذيهن أحد بكلمة خادشة للحياء أو نظرة وقحة، وشجر خفيف يحط على البيوت الخفيضة، وفى كل مكان لا تجد سوى الابتسامة العذبة ولا تشعر بغربة أبداً.. الإسلام ذائب هنا فى نفوس الناس دون طلاءات ولا زيف، ولا تمسك بالمظاهر الخادعة والقشور الهشة، وصوت أذان الفجر فى إندونيسيا يبعث على الخشوع والسكينة، عذوبة الصوت بالنغمة المصرية الأصيلة بنت مدرسة الأزهر العظيمة التى وضعت بصمتها هناك فى قلب البحار البعيدة.
ونكمل غداً إن شاء الله تعالى