عمرو حمزاوى يكتب | عن التشويه بتراكيب زائفة
أرسل لى أحد الأصدقاء رابطا لمقالة للأستاذ ماهر مقلد نشرت منذ أيام قليلة فى جريدة الأهرام تحت عنوان «عمرو حمزاوى مع التوريث»، وبها يروى الكاتب قصة لقاء جمعنا فى العاصمة اللبنانية بيروت فى نهاية 2009 ويستند إليه للترويج للإدعاء الزائف الذى يحمله العنوان.
يروى الأستاذ مقلد، وهو كان يعمل مديرا لمكتب الأهرام فى بيروت عندما كنت أعمل هناك كمدير أبحاث مكتب وقفية كارنيجى للسلام العالمى فى 2009 و2010، عن لقاء جمعه معى ومع صحفيين آخرين سألته خلاله عن توقعاته بشأن التوريث فى مصر. وبينما «أجاب هو بما يتمناه» فقال: «لن يحدث»، عقبت أنا فقلت: «بل العكس هو الصحيح» وأكدت أن «مشروع التوريث» قائم واقترحت رهانا معه بشأن «المستقبل» بمبلغ 10 آلاف دولار. ثم يروى المدير السابق لمكتب الأهرام فى بيروت أنه تراجع إزاء «المبلغ الكبير» للرهان، واقترح استبداله بدعوة كل الحاضرين على الغذاء. هنا انتهت «قصة اللقاء»، وأتبعها الكاتب بعدة جمل تستند إليها للدفع بتأييدى «لمشروع التوريث» الذى أوقفته ثورة يناير 2011.
•••
لى هنا عدة ملاحظات لتبيان زيف «تركيب» قصة اللقاء وزيف الإدعاء الذى يحمله عنوان المقالة، قبل أن أنتقل إلى الدلالات الأوسع والأهم لحملات التشويه وتزييف الوعى المستمرة:
1ــ ركبت قصة اللقاء بإسقاط التمييز المنطقى/ الرشيد عقليا/ الضرورى لنزاهة وموضوعية الطرح بين توقع حدوث التوريث فى مصر من الرئيس الأسبق مبارك إلى نجله جمال فى 2009، وبين الموقف من التوريث تأييدا أو رفضا. أما التوقع فكنت أراه مدعوما بالكثير من شواهد الحياة السياسية فى مصر آنذاك. وأما موقفى فكان المعارضة الصريحة التى سجلتها كتاباتى البحثية والصحفية منذ 2003 ــ 2004، وثبتتها لقاءات تليفزيونية متعددة على فضائيات كالبى بى سى والعربية والجزيرة ودبى وأبوظبى وغيرها (يستطيع القارئ أن يجد كل ذلك بيسر على شبكة الإنترنت) ــ ويعلم الأستاذ مقلد كغيره من المتابعين أن معارضتى لم تقتصر على التوريث فقط، بل كانت سلطوية حكم الرئيس الأسبق مبارك هى محورها، وبحثى عن سبل للتحول الديمقراطى والدفاع عن الحقوق والحريات هو بوصلتها. ويعلم أيضا كغيره عن تعرضى لحملات تشويه متتالية منذ 2007 على صفحات بعض الجرائد المصرية المملوكة للدولة كالأهرام التى يعمل لها وروزاليوسف وغيرهما.
الهدف من إسقاط التمييز بين التوقع والموقف فى رواية الكاتب، إذن، هو تزييف وعى الناس بشأن حقيقة قناعاتى وآرائى قبل 2011، والتعويل هنا هو على تلاحق الأحداث وكثرة القيل والقال وضعف الذاكرة البشرية.
2 ــ ليس «اقتراح الرهان» من بين طرائقى فى حسم النقاش، ولا أوظف لغة المال أبدا فى حوارات تجمعنى إن مع أهل أو أصدقاء أو زملاء أو فى حوارات مهنية. لذلك تعجبت بداية من «لقطة رهان الـ10 آلاف دولار» التى زج بها الكاتب إلى روايته، ثم فهمت مغزاها حين أشار إلى «تراجعه عن الرهان إزاء المبلغ الكبير» واقتراحه هو دعوة للغداء كرهان بديل يقدر عليه.
بتحليل لغوى بسيط، يتضح أن هدف «لقطة الرهان» هو، من جهة، تثبيت الادعاء الزائف بتأييد التوريث عبر ميكانزم «الدليل غير الاعتيادى» ــ أى الرهان بـ10 آلاف دولار ــ طلبا للتصديق من قبل القراء الذين قد يتذكرون مواقفى أو يتعاطفون اليوم مع دفاعى عن الديمقراطية وحقوق الإنسان. من جهة أخرى، توظف لقطة الرهان ميكانزم الغمز واللمز لتنفير القراء من التعاطف معى عبر استدعاء الكثير من الإفك الذى يتردد اليوم فى مصر عن «أموال أمريكا» و«ثروات المتاجرين بالديمقراطية» ــ ولسان حال الكاتب هنا هو سؤال التنفير والإدانة فى واقع مصرى تتكالب عليه أزمات الفقر وتدهور مستويات الخدمات الأساسية وغياب الحدود الدنيا من حقوق الحياة الكريمة عن قطاعات شعبية واسعة: من له غير هؤلاء من متلقى أموال أمريكا والمتاجرين بالديمقراطية أن يقترح رهانا بـ10 آلاف دولار؟
لكى يوظف لقطة رهان الـ10 آلاف دولار، صمت الكاتب عن حقيقة أن عملى البحثى فى كارنيجى (وهى وقفية تمول باحثيها ذاتيا بغية الحفاظ على استقلالهم وموضوعيتهم وترفض تلقى الأموال من جهات حكومية أمريكية أو من جماعات مصالح وضغط ذات أجندات سياسية) كان له مقابل مادى معلوم (معلوم أيضا للسلطات المصرية عبر إقرارات الذمة المالية الدورية لكونى أعمل بجامعة القاهرة) لم يكن ليسمح لى بمثل هذا التبذير. كما سكت الكاتب أيضا فى سبيل الغمز واللمز من باب مقولات «أموال أمريكا» عن كون هذه المقولات توظف إفكا لتشويه الكثير من الأصوات والمجموعات المدافعة عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والمعارضة لبناء الاستبداد الجديد فى مصر والناظرة برفض واضح للمعايير المزدوجة للغرب حين يتعامل مع ملفات الديمقراطية فى مصر ــ والحقيقة هى أن الجهات المتلقية للمنح الأمريكية فى مجالات المجتمع المدنى وما سمى «دعم الديمقراطية» قبل 2011 وبعده معلومة بالاسم للسلطات المصرية، وبينها الكثير من منظمات المجتمع المدنى الجادة، وليس بينها مؤسسات بحثية أو باحثين عاملين فى مجال التحول الديمقراطى وحقوق الإنسان.
3 ــ فات الكاتب أيضا (أو تجاهل) أن النقاشات المصرية قبل 2011 اتسمت بامتناع مؤيدى توريث الحكم ــ والكثير منهم كانت له مساحة معتبرة لنشر الرأى فى الصحف المملوكة للدولة كالأهرام وغيرها ــ عن طرحه كمشروع قادم، بل عمدوا إلى نفى وجوده، وعولوا دوما على خطاب «ضرورة النقل المنظم للسلطة» ومقولات تقدم عمر الرئيس الأسبق مبارك وغياب البديل وضعف المعارضة السياسية والحزبية والأخطار الإقليمية والدولية للترويج غير المباشر للتوريث.
بينما ترك الحديث عن «مشروع التوريث» لرافضيه ومعارضى منظومة حكم الرئيس الأسبق مبارك وللباحثين عن سبل دفع مصر إلى تداول حقيقى للسلطة وبدايات فعلية للتحول الديمقراطى.
•••
أما الدلالات الأوسع والأهم لتواصل حملات الإفك والتشويه التى تصيب الكثير من الأصوات والمجموعات المدافعة عن الديمقراطية وتصيبنى بين الحين والآخر خصوصا منذ 3 يوليو 2013، فتتمثل فى:
1 ــ كون وضعية الاستقطاب والصراع والاستعداد لتوظيف جميع الوسائل المشروعة وغير المشروعة للاغتيال المعنوى للخارجين عن «التيار العام» المؤيد لمنظومة الحكم/ السلطة الحالية والمغردين خارج سرب الترويج للابتعاد عن مسار حقيقى للتحول الديمقراطى وتبرير انتهاكات الحقوق والحريات أو تجاهلها والصمت عنها قد تمددت فى المجال العام ومعظم المساحات الإعلامية على نحو كارثى تغيب معه عقلانية وموضوعية ونزاهة طرح الرأى وقبول الآخر دون إلغاء أو إقصاء والاعتراف بحق المعارضين فى التعبير الحر عن آرائهم وأفكارهم دون أن تكون كلفة ذلك هى الاغتيال المعنوى.
2 ــ «صناعة» الرأى الواحد والصوت الواحد والحشد الأحادى لتأييد منظومة الحكم/ السلطة وتبرير الخروج عن الديمقراطية ــ هذه الصناعة التى يديرها الحكم وتشرف عليها «الأجهزة السيادية» وتمولها المصالح الاقتصادية والمالية والإعلامية المتحالفة ﻹبقاء مصر داخل عباءة حكم الفرد ــ لم تعد تكتفى بتشويه آراء وأفكار ومواقف المعارضين اليوم، بل تستدعى تراكيب زائفة من الماضى إيغالا فى الاغتيال المعنوى والإقصاء لكل من يجهر بالحديث عن انتهاكات الحقوق والحريات ويرفض مقايضة الناس على الأمن والخبز بالحرية والحق فى الاختيار ويطالب دون معايير مزدوجة وبهدف استعادة السلم الأهلى بإنهاء المظالم الواقعة على المتعاطفين مع جماعة الإخوان واليمين الدينى ممن لم يثبت عليهم ممارسة العنف أو التحريض عليه أو الخروج على القانون.
3ــ مآل وضعية الاستقطاب وصناعة الرأى الواحد هو تجريد النقاش العام من الموضوعية والنزاهة والتعددية، واغتيال عقل المجتمع الباحث عن المعلومات والحقائق والساعى للمشاركة فى إدارة الشأن العام بوعى ويقظة، وإفقاد ضمير الناس الجماعى القدرة على الحكم الرشيد على الأمور ورفض الظلم والتمييز بين الحق والباطل ومقاومة فرض عباءة حكم الفرد والترويج للخوف من الحاضر والمستقبل والاعتماد الأحادى على البطل المنقذ/ المخلص.
والضحية الحقيقية لكل ذلك، بعيدا عمن يصيبهم التشويه والاغتيال المعنوى من أصوات ومجموعات تتكالب عليهم اليوم إلا أن كلمة الحق التى يجهرون بها تضمد جراحهم وتعلمهم يوميا درس الصبر، هى مصر وفرص تقدمها ولحاقها بركب الدول والمجتمعات الطبيعية/ الرشيدة/ الديمقراطية.