هناك ثلاث خرائط لا بد أن تكون واضحة فى أذهان أى فاعل سياسى. الخريطة الأولى هى الخريطة السياسية- الجغرافية التى عادة ما نطالعها فى نشرات الأخبار والتى تقول لنا أين تبدأ حدود الدولة وأين تنتهى وأهم التضاريس الجغرافية التى تجعل هذه الحدود منيعة أو قابلة للاختراق.
ولكن هناك خريطتين مهمتين لا يمكن إغفالهما: خريطة موازين القوى الشاملة للدولة وخريطة المصالح الاستراتيجية للدولة. وموازين القوى الشاملة هذه هى الأعقد فى فهم أبعادها لأن جزءا منها خفى غير معلن وكامن غير ظاهر. على الورق وبالنظر إلى كميات السلاح، أمريكا كانت أقوى يقينا من فيتنام فى الستينات والسبعينات ولكن فعليا لم تستطع إدارات الولايات المتحدة الثلاثة فى عهد جونسون ثم نيكسون أن يجعلا خريطة موازين القوى فى منطقة آسيا كلها متسقة مع خريطة المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة رغما عن التفوق العسكرى.
وعادة ما يتم تبسيط خريطة المصالح الاستراتيجية للدولة فى أهم مصلحتين لها: الأمن والرفاه. والعلاقة بين المصلحتين متداخلة وتحت هاتين المصلحتين الاستراتيجيتين للدولة توجد عشرات الأهداف الفرعية مثل الاستقرار والردع والمكانة الإقليمية والدولية وهكذا.
والدولة حين لا تستطيع أن تحقق أيا من الهدفين أو كليهما بشكل منفرد فإنها قد تدخل فى تحالفات مع دول أخرى تتوافق معها فى مصالحها الاستراتيجية وتضيف كل منهما للأخرى فى خريطة موازين القوى الشاملة للدولة بل ربما تصل إلى درجة أنها تعيد رسم حدودها السياسية وربما تلغيها حتى تصل إلى نقطة التوازن بين الخرائط الثلاث: الحدود السياسية والقوة الشاملة والمصالح الاستراتيجية. وهذا تحديدا هو ما أقدمت عليه دول أوروبا حين قررت أن تتخذ خطوات جادة فى طريق الوحدة بين دولها. بالنسبة لهم، كان عدم التطابق بل التنافر بين الحدود السياسية وخريطة المصالح الاستراتيجية وموازين القوى الشاملة السبب فى عشرات الحروب حتى بعد إقرار حدود الدول القومية انتهاء بالحربين العالميتين. لذا كان الحل هو إلغاء هذه الحدود تدريجيا بما يفضى إلى خريطة جديدة تعتمد على التنوع الثقافى والفكرى واللغوى والدينى فى إطار الوحدة الاقتصادية والسياسية.
طيب يعنى نعمل إيه يعنى؟
أبدا، فكر فى خريطة مصر ستجد أن ما حدث فى مصر والمنطقة فى آخر ثلاث سنوات يأخذنا فى الاتجاه المضاد تماما. خريطة الحدود السياسية لمصر كما هى لم تتغير ولكن خريطة المصالح الاستراتيجية تغيرت بشدة بعد الثورة ومعها خريطة موازين قوتنا الشاملة. وانتقلنا لمدة عام من الفضاء الاستراتيجى التقليدى المصرى الذى اعتدنا عليه فى فترة الرئيس مبارك إلى فضاء استراتيجى آخر تلعب فيه قطر وتركيا دورا لم تكن تلعباه قط من قبل ثم بعد 30 يونيو تعود مصر إلى سابق فضائها الاستراتيجى لتتحول قطر وتركيا إلى ما كانا عليه قبل 25 يناير وبطريقة أكثر شراسة ولتحل محلهما السعودية والإمارات والكويت. وكل تغيير فى خريطة التحالفات يعنى بالضرورة تكلفة انتقال تتكبدها الدولة، وهو ما حدث ويحدث مع مصر الآن فى علاقتها بالعرب وبالغرب والعالم الخارجى بصفة عامة.
ولكن الخلل فى خريطة المصالح وموازين القوى بالنسبة لمصر يأتى من مصدر آخر فى منتهى الخطورة وهو أن مصر دولة محاطة بميليشيات أكثر منها محاطة بدول. انظر إلى الخريطة جنوبا وغربا وشرقا. مصر ليست محاطة بدول مستقرة ذات سيادة قادرة على أن تبسط كامل سلطانها على كامل ترابها الوطنى وعلى كل الفاعلين السياسيين فيها. وكل ميليشيا لديها قيادتها وأسلحتها والأهم من كل ذلك أحقادها التاريخية وخلافاتها السياسية مع قوى أو قبائل أخرى تشاركها الحدود السياسية الجغرافية ولكنها تتناقض معها فى المصالح الاستراتيجية: انظر لحماس فى علاقتها بفتح، انظر إلى القبائل الليبية فى علاقتها بالحكومة فى طرابلس، انظر إلى القبائل السودانية فى علاقتها مع الحكومة فى الخرطوم. من يقف على حدودنا من الجانب الآخر ليست جيوش دول تحت سيطرة قياداتها السياسية، وإنما كيانات غير كاملة الأهلية من ناحية موازين القوى ومن ناحية خريطة المصالح وصولا إلى هدفى: الأمن والرفاه.
نحن فى مأزق كبير، ولكن هل نحن على وعى به وبالتالى نعرف كيف نخطط لمواجهته؟
المصدر جريدة الوطن