معتز بالله عبد الفتاح يكتب|مصر التى لا نريد: قراءة فى سيناريوهات المستقبل
9 نوفمبر، 2013
أقلام حرة, رول الأخبار
90 زيارة
ربما لو عرفنا ما الذى لا نريد، وهو ما يسمى فى التفكير الاستراتيجى «الاختيار بالاستبعاد» لكان من الممكن لنا أن نحدد دائرة ما نريد.
أولاً، نحن لا نريد لمصر أن تحتذى النموذج «الإيرانى» المبنى على وجود مؤسسات كهنوتية توازى مؤسسات الدولة السياسية لضمان «إسلامية» القرارات والتشريعات. ومن هنا كان مهماً ألا يوجد فى الدستور المعطل أو المعدل صلاحيات واسعة لأى جهة دينية أو سياسية بما يعطيها الحق فى أن تلعب دور «مرشد عام للدولة» ككيان مواز لرئيس الجمهورية أو أن نجد مجلساً أو هيئة شبيهة بمجلس «تشخيص مصلحة النظام» الذى هو الهيئة الاستشارية العليا للمرشد العام الذى يقوم بتشكيله المرشد «لتشخيص المصلحة فى الحالات التى يرى مجلس صيانة الدستور الإيرانى أن قرار مجلس الشورى الإسلامى يخالف موازين الشريعة والدستور فى حين لا يوافق على ذلك مجلس الشورى الإسلامى الإيرانى». وكأنه حكم بين البرلمان والمحكمة الدستورية، وهو عادة ما يحكم لصالح المحكم الدستورية (أى مجلس صيانة الدستور) الأكثر محافظة دينياً. وبدون الدخول فى تفصيلات، مصر الآن تبتعد عن هذه الصيغة الكهنوتية. وهذا هو جوهر مدنية الدولة. وأقصى ما يمكن أن يحدث هو أن تستشار هيئة كبار العلماء من قبل رجال الدولة مثلما تستشار الهيئات المتخصصة المختلفة، وهى فى كل حال تستطيع أن تقول رأيها بدون استشارة.
ثانياً، نحن لا نريد لمصر أن تحتذى النموذج «الباكستانى»، حيث الطبقة السياسية المدنية شديدة الانقسام أيديولوجيا، والجيش هو الحاكم الفعلى، سواء من خلال انقلابات عسكرية أو من خلال «التحكم» فى المشهد خلف رؤساء ضعفاء. الجيش كان حاضراً بقوة، مثلما كان الحال فى مصر، منذ أولى لحظات الاستقلال ثم الحرب ثم مع دستور 1956 فى باكستان، الذى أفضى إلى الجنرال إسكندر ميرزا أول من تقلد منصب رئيس الجمهورية، وبدأت باكستان فى تلك الفترة بإنشاء العديد من المشاريع التنموية الضخمة. ولكن فى خلال عامين، وبدعم من الولايات المتحدة، حدث أول انقلاب عسكرى بقيادة الجنرال أيوب خان الذى يصفه البعض بأنه حاول تطبيق أفكار أتاتورك فى باكستان. ومنذ ذلك الحين ولم تنج باكستان من تدخلات القيادات العسكرية السافرة ليخرج رئيس ويحل محله قائد أركان جيشه إما بلا انتخابات أو بانتخابات يعلم القاسى والدانى أنها مزورة وبفجاجة استثنائية. وحتى هذه اللحظة تبدو الطبقة السياسية المدنية، وكأنها تتحرك فى ربع المساحة السياسية المسموح لها أن تتحرك فيها من قبل الجيش الذى يدافع عن حدود الدولة ضد أعدائها الخارجيين، ويدافع عن بنيان الدولة ضد أعدائها الداخليين. وأسوأ ما فى هذا النموذج أن الجيش «يسلم» السلطة لكنه «لا يساعد» فى بناء مؤسسات الدولة المدنية، بما يعنى أنه «سيعود»، وهو ما حدث مع الجنرال ضياء الحق بعد فترة حكم قصيرة لذو الفقار على بوتو، وما حدث مع الجنرال بيرويز مشرف بعد نواز شريف. إذن التسليم بلا مساعدة من قبل العسكر فى بناء نظام ديمقراطى حقيقى يكون خدعة استراتيجية. وهناك فى مصر من يخشى أن يكون الفريق السيسى قد اختار أن يحول الثورة إلى «انقلاب عسكرى هادئ» تعود بعده الأمور إلى ما كانت عليه. ولكن ما أتمناه أن تثبت القيادات العسكرية وطنيتها، وحرصها على الديمقراطية يفوق أى نزعة للتحكم فى شئون الدولة، مع ملاحظة مهمة أن الجيل الحالى من المصريين، لاسيما الشباب منهم، لن يقبلوا أن تكون نتيجة 25+30 = 54.
ثالثاً، نحن لا نريد لمصر أن تكون على خطى «حماس لاند» فى غزة، حيث تحولت الأغلبية البرلمانية فى انتخابات يناير 2006 إلى الحكومة الفعلية فتم منع الأكسجين السياسى عنها بتوافق إقليمى دولى بمنطق أن «نجاح الأعداء فى أى مكان سيعنى انتقال العدوى إلى أماكن أخرى» وفقاً للنظرية الشهيرة المعروفة بسياسة الاحتواء، كما عرفها جورج كينين منذ الأربعينات للإشارة إلى دور المجتمع الدولى والبيئة الإقليمية فى أن تحمى نفسها من أعدائها عبر الضغط المتواصل والعقوبات المتزايدة. وقد لعبت مصر دورا مهما فى منع الأكسجين عن حماس خلال حكم مبارك، وهناك من استخدم ضدنا نفس السلاح بعد أن أصبحنا نحن «الأعداء» تحت حكم الإخوان. وفشل الإخوان فى أن يطمئنوا الخائفين وأن يقيموا تحالفات إقليمية قوية. وهذا ليس غريبا فهؤلاء لم ينجحوا فى تطمين الخائفين داخل المجتمع المصرى أصلاً.
ويا ليت قيادات الإخوان قد استجابوا لما قد سبقوا أن قالوه بأنهم لا يريدون ترشيح أحد للانتخابات الرئاسية، وأنهم سيكتفون بانتخاب «رئيس غير إسلامى يحترم التيار الإسلامى» على حد تعبير المرشد العام للإخوان المسلمين. ولكن أعتقد أن المصريين سيأخذون فى اعتبارهم متغير البيئة الإقليمية عند أى قرار سياسى جديد بشأن من يحكم البلاد.
رابعاً، نحن لا نريد نموذج «الجزائر» فى عام 1990 حيث تكون المفاضلة بين «الانتخابات النزيهة» أو «الأمن القومى»، ومن هنا نفهم الكلام العام الذى خرج منسوباً إلى بعض قيادات المجلس الأعلى للقوات المسلحة قبل انتخاب الدكتور مرسى من أن «مدنية» الدولة هى قضية أمن قومى. وما تعنى هذه العبارة إلا أن استقرار مصر الداخلى من ناحية وسياستها الخارجية من ناحية أخرى، يرتبط بأن من يحكم مصر لا يحمل مؤسسات الدولة المصرية، بما فيها القوات المسلحة، أعباء ومسئوليات غير مصرية لا باسم «القومية العربية» ولا باسم «الأمة الإسلامية». والفخ الذى وقعت فيه القيادة تحت حكم الدكتور مرسى هو محاولة «أخونة» مؤسسات صناعة العقل والرأى (إعلام، ثقافة، أوقاف، تعليم) وهذا فى ذاته أثار المخاوف من أنه مقدمة لأخونة بقية الجهاز العصبى للأمن القومى المصرى فى بقية مؤسساته بما أنتج عملية الحجر السياسى على الدكتور مرسى وما أعقبه من اتجاه لبتر جماعة الإخوان من الجسد السياسى المصرى بعد الخطب العنترية والأعمال الإرهابية واستعداء قوى دولية ضد مصر مع الحرص الدائم للتذكير بأنها الجماعة التى كانت تدعى أنها «زاهدة فى السلطة» ولكن يبدو أنها كانت زاهدة فيها حين كانت لا تملكها. المعضلة أن النموذج الجزائرى يحمل لنا رسالة مثيرة للتأمل وهو أن حركة مجتمع السلم وهى تمثل إخوان الجزائر، وقفت مع الدولة ضد جبهة الإنقاذ الإسلامية، أى أنها لعبت الدور الذى يلعبه حزب النور فى مصر الآن. وبعد سنوات من العنف والاحتجاج، انتصرت الدولة وانزوت جبهة الإنقاذ وظلت قوة الإسلام فى بعد أتباعه عن التحزب القبلى لجماعة ضد المجتمع.
خامساً، لا نريد نموذجى اليونان والبرتغال، وهما دولتان تصنفان فى خانة الدول المستقرة ديمقراطيا بحكم أنهما بدأتا عملية التحول الديمقراطى منذ سبعينات القرن الماضى وتمت العملية بنجاح. ولكنهما تعانيان اقتصاديا لدرجة أنهما وصلتا إلى حافة الإفلاس وأصبحتا عبئا ثقيلا على جيرانهما. لماذا؟ حكومات غير مستقرة، معارضة شرسة لدرجة الخبل العقلى، المزايدات على أشدها، البطولات الشخصية لنجوم السياسة أهم من تطوير رؤية شاملة لمصالح البلاد، «وضع العصا فى العجلة» كى ينقلب من يقودها بالبلاد لمجرد أنه من حزب منافس. وهناك لا شك عيوب هيكلية اقتصادية واضحة منها الإنتاجية المنخفضة والتنافسية المحدودة، والاستخدام المبالغ فيه للاقتراض الشخصى، وتزوير فى ملفات حكومية. إذن هما نموذجان لديمقراطية بلا حكم رشيد. القضية هنا ليست مرتبطة بنوع الإجراءات المتخذة (procedures) لأنها فى معظمها ديمقراطية، ولكن الخلل مرتبط بالمبادى الحاكمة (principles) والتفاعلات بين الفاعلين المختلفين (processes). لذا نذكر الجميع أننا فى محك تاريخى خطير يبدو فيه أننا يمكن أن يكون لدينا دستور عظيم، ولكنه ينتج ديمقراطية بلا ديمقراطيين أى بعبارة أخرى عندنا «الإجراءات» ولا توجد عندنا المبادئ الحاكمة؛ فنضر أنفسنا من حيث أردنا أن نساعدها.
الخلاصة إذن: علينا أن نفكر وأن نتصرف «استراتيجياً» كى نتخذ الإجراءات التى تبعدنا عن النماذج السابقة: لا نريد «كهنوت» النظام السياسى الإيرانى، ولا «عسكرتارية» النظام السياسى الباكستانى، ولا «استعدائية» التجربة الحمساوية فى غزة، ولا «استمرار دموية» التجربة الجزائرية، ولا «هشاشة» البيئة السياسية والاقتصادية فى اليونان والبرتغال.
تجنب هذه المزالق لا يحتاج فقط حسن صياغة تعديلات الدستور، ولكن كذلك حسن اختيار أعضاء البرلمان، وحسن اختيار الرئيس المؤسس للديمقراطية الجديدة، ويحتاج أن يرينا الله الحق حقاً وأن يرزقنا اتباعه. آمين.
ربما لو عرفنا ما الذى لا نريد، وهو ما يسمى فى التفكير الاستراتيجى «الاختيار بالاستبعاد» لكان من الممكن لنا أن نحدد دائرة ما نريد.
أولاً، نحن لا نريد لمصر أن تحتذى النموذج «الإيرانى» المبنى على وجود مؤسسات كهنوتية توازى مؤسسات الدولة السياسية لضمان «إسلامية» القرارات والتشريعات. ومن هنا كان مهماً ألا يوجد فى الدستور المعطل أو المعدل صلاحيات واسعة لأى جهة دينية أو سياسية بما يعطيها الحق فى أن تلعب دور «مرشد عام للدولة» ككيان مواز لرئيس الجمهورية أو أن نجد مجلساً أو هيئة شبيهة بمجلس «تشخيص مصلحة النظام» الذى هو الهيئة الاستشارية العليا للمرشد العام الذى يقوم بتشكيله المرشد «لتشخيص المصلحة فى الحالات التى يرى مجلس صيانة الدستور الإيرانى أن قرار مجلس الشورى الإسلامى يخالف موازين الشريعة والدستور فى حين لا يوافق على ذلك مجلس الشورى الإسلامى الإيرانى». وكأنه حكم بين البرلمان والمحكمة الدستورية، وهو عادة ما يحكم لصالح المحكم الدستورية (أى مجلس صيانة الدستور) الأكثر محافظة دينياً. وبدون الدخول فى تفصيلات، مصر الآن تبتعد عن هذه الصيغة الكهنوتية. وهذا هو جوهر مدنية الدولة. وأقصى ما يمكن أن يحدث هو أن تستشار هيئة كبار العلماء من قبل رجال الدولة مثلما تستشار الهيئات المتخصصة المختلفة، وهى فى كل حال تستطيع أن تقول رأيها بدون استشارة.
ثانياً، نحن لا نريد لمصر أن تحتذى النموذج «الباكستانى»، حيث الطبقة السياسية المدنية شديدة الانقسام أيديولوجيا، والجيش هو الحاكم الفعلى، سواء من خلال انقلابات عسكرية أو من خلال «التحكم» فى المشهد خلف رؤساء ضعفاء. الجيش كان حاضراً بقوة، مثلما كان الحال فى مصر، منذ أولى لحظات الاستقلال ثم الحرب ثم مع دستور 1956 فى باكستان، الذى أفضى إلى الجنرال إسكندر ميرزا أول من تقلد منصب رئيس الجمهورية، وبدأت باكستان فى تلك الفترة بإنشاء العديد من المشاريع التنموية الضخمة. ولكن فى خلال عامين، وبدعم من الولايات المتحدة، حدث أول انقلاب عسكرى بقيادة الجنرال أيوب خان الذى يصفه البعض بأنه حاول تطبيق أفكار أتاتورك فى باكستان. ومنذ ذلك الحين ولم تنج باكستان من تدخلات القيادات العسكرية السافرة ليخرج رئيس ويحل محله قائد أركان جيشه إما بلا انتخابات أو بانتخابات يعلم القاسى والدانى أنها مزورة وبفجاجة استثنائية. وحتى هذه اللحظة تبدو الطبقة السياسية المدنية، وكأنها تتحرك فى ربع المساحة السياسية المسموح لها أن تتحرك فيها من قبل الجيش الذى يدافع عن حدود الدولة ضد أعدائها الخارجيين، ويدافع عن بنيان الدولة ضد أعدائها الداخليين. وأسوأ ما فى هذا النموذج أن الجيش «يسلم» السلطة لكنه «لا يساعد» فى بناء مؤسسات الدولة المدنية، بما يعنى أنه «سيعود»، وهو ما حدث مع الجنرال ضياء الحق بعد فترة حكم قصيرة لذو الفقار على بوتو، وما حدث مع الجنرال بيرويز مشرف بعد نواز شريف. إذن التسليم بلا مساعدة من قبل العسكر فى بناء نظام ديمقراطى حقيقى يكون خدعة استراتيجية. وهناك فى مصر من يخشى أن يكون الفريق السيسى قد اختار أن يحول الثورة إلى «انقلاب عسكرى هادئ» تعود بعده الأمور إلى ما كانت عليه. ولكن ما أتمناه أن تثبت القيادات العسكرية وطنيتها، وحرصها على الديمقراطية يفوق أى نزعة للتحكم فى شئون الدولة، مع ملاحظة مهمة أن الجيل الحالى من المصريين، لاسيما الشباب منهم، لن يقبلوا أن تكون نتيجة 25+30 = 54.
ثالثاً، نحن لا نريد لمصر أن تكون على خطى «حماس لاند» فى غزة، حيث تحولت الأغلبية البرلمانية فى انتخابات يناير 2006 إلى الحكومة الفعلية فتم منع الأكسجين السياسى عنها بتوافق إقليمى دولى بمنطق أن «نجاح الأعداء فى أى مكان سيعنى انتقال العدوى إلى أماكن أخرى» وفقاً للنظرية الشهيرة المعروفة بسياسة الاحتواء، كما عرفها جورج كينين منذ الأربعينات للإشارة إلى دور المجتمع الدولى والبيئة الإقليمية فى أن تحمى نفسها من أعدائها عبر الضغط المتواصل والعقوبات المتزايدة. وقد لعبت مصر دورا مهما فى منع الأكسجين عن حماس خلال حكم مبارك، وهناك من استخدم ضدنا نفس السلاح بعد أن أصبحنا نحن «الأعداء» تحت حكم الإخوان. وفشل الإخوان فى أن يطمئنوا الخائفين وأن يقيموا تحالفات إقليمية قوية. وهذا ليس غريبا فهؤلاء لم ينجحوا فى تطمين الخائفين داخل المجتمع المصرى أصلاً.
ويا ليت قيادات الإخوان قد استجابوا لما قد سبقوا أن قالوه بأنهم لا يريدون ترشيح أحد للانتخابات الرئاسية، وأنهم سيكتفون بانتخاب «رئيس غير إسلامى يحترم التيار الإسلامى» على حد تعبير المرشد العام للإخوان المسلمين. ولكن أعتقد أن المصريين سيأخذون فى اعتبارهم متغير البيئة الإقليمية عند أى قرار سياسى جديد بشأن من يحكم البلاد.
رابعاً، نحن لا نريد نموذج «الجزائر» فى عام 1990 حيث تكون المفاضلة بين «الانتخابات النزيهة» أو «الأمن القومى»، ومن هنا نفهم الكلام العام الذى خرج منسوباً إلى بعض قيادات المجلس الأعلى للقوات المسلحة قبل انتخاب الدكتور مرسى من أن «مدنية» الدولة هى قضية أمن قومى. وما تعنى هذه العبارة إلا أن استقرار مصر الداخلى من ناحية وسياستها الخارجية من ناحية أخرى، يرتبط بأن من يحكم مصر لا يحمل مؤسسات الدولة المصرية، بما فيها القوات المسلحة، أعباء ومسئوليات غير مصرية لا باسم «القومية العربية» ولا باسم «الأمة الإسلامية». والفخ الذى وقعت فيه القيادة تحت حكم الدكتور مرسى هو محاولة «أخونة» مؤسسات صناعة العقل والرأى (إعلام، ثقافة، أوقاف، تعليم) وهذا فى ذاته أثار المخاوف من أنه مقدمة لأخونة بقية الجهاز العصبى للأمن القومى المصرى فى بقية مؤسساته بما أنتج عملية الحجر السياسى على الدكتور مرسى وما أعقبه من اتجاه لبتر جماعة الإخوان من الجسد السياسى المصرى بعد الخطب العنترية والأعمال الإرهابية واستعداء قوى دولية ضد مصر مع الحرص الدائم للتذكير بأنها الجماعة التى كانت تدعى أنها «زاهدة فى السلطة» ولكن يبدو أنها كانت زاهدة فيها حين كانت لا تملكها. المعضلة أن النموذج الجزائرى يحمل لنا رسالة مثيرة للتأمل وهو أن حركة مجتمع السلم وهى تمثل إخوان الجزائر، وقفت مع الدولة ضد جبهة الإنقاذ الإسلامية، أى أنها لعبت الدور الذى يلعبه حزب النور فى مصر الآن. وبعد سنوات من العنف والاحتجاج، انتصرت الدولة وانزوت جبهة الإنقاذ وظلت قوة الإسلام فى بعد أتباعه عن التحزب القبلى لجماعة ضد المجتمع.
خامساً، لا نريد نموذجى اليونان والبرتغال، وهما دولتان تصنفان فى خانة الدول المستقرة ديمقراطيا بحكم أنهما بدأتا عملية التحول الديمقراطى منذ سبعينات القرن الماضى وتمت العملية بنجاح. ولكنهما تعانيان اقتصاديا لدرجة أنهما وصلتا إلى حافة الإفلاس وأصبحتا عبئا ثقيلا على جيرانهما. لماذا؟ حكومات غير مستقرة، معارضة شرسة لدرجة الخبل العقلى، المزايدات على أشدها، البطولات الشخصية لنجوم السياسة أهم من تطوير رؤية شاملة لمصالح البلاد، «وضع العصا فى العجلة» كى ينقلب من يقودها بالبلاد لمجرد أنه من حزب منافس. وهناك لا شك عيوب هيكلية اقتصادية واضحة منها الإنتاجية المنخفضة والتنافسية المحدودة، والاستخدام المبالغ فيه للاقتراض الشخصى، وتزوير فى ملفات حكومية. إذن هما نموذجان لديمقراطية بلا حكم رشيد. القضية هنا ليست مرتبطة بنوع الإجراءات المتخذة (procedures) لأنها فى معظمها ديمقراطية، ولكن الخلل مرتبط بالمبادى الحاكمة (principles) والتفاعلات بين الفاعلين المختلفين (processes). لذا نذكر الجميع أننا فى محك تاريخى خطير يبدو فيه أننا يمكن أن يكون لدينا دستور عظيم، ولكنه ينتج ديمقراطية بلا ديمقراطيين أى بعبارة أخرى عندنا «الإجراءات» ولا توجد عندنا المبادئ الحاكمة؛ فنضر أنفسنا من حيث أردنا أن نساعدها.
الخلاصة إذن: علينا أن نفكر وأن نتصرف «استراتيجياً» كى نتخذ الإجراءات التى تبعدنا عن النماذج السابقة: لا نريد «كهنوت» النظام السياسى الإيرانى، ولا «عسكرتارية» النظام السياسى الباكستانى، ولا «استعدائية» التجربة الحمساوية فى غزة، ولا «استمرار دموية» التجربة الجزائرية، ولا «هشاشة» البيئة السياسية والاقتصادية فى اليونان والبرتغال.
تجنب هذه المزالق لا يحتاج فقط حسن صياغة تعديلات الدستور، ولكن كذلك حسن اختيار أعضاء البرلمان، وحسن اختيار الرئيس المؤسس للديمقراطية الجديدة، ويحتاج أن يرينا الله الحق حقاً وأن يرزقنا اتباعه. آمين.