مجموعة سعودي القانونية

نوارة نجم تكتب: المكارثية البلهاء.. المركب بتغرق يا قبطان

نوارة نجم تكتب: المكارثية البلهاء.. المركب بتغرق يا قبطان

نوارة نجم

هووووووفففففففففف… اللهم طولك يا روح.

يتردد الآن في الدوائر الثقافية تعبير “المكارثية”، وربما يشير إليها بعض الكتاب والإعلاميين بشكل عابر. وأظن إن التعبير غير مألوف لدى الأذن المصرية، لذا وجب إعطاء فكرة بسيطة عن أصل التعبير، لأننا سنحتاجه كثيرا.

شوف يا سيدي. كلمة “مكارثية” تعبير تم سكه في مطلع الخمسينيات، وهي نسبة للسيناتور الجمهوري جوزيف مكارثي، الذي اتخذ إجراءات استثنائية في فترة الخوف الأحمر الثاني لملاحقة الشيوعية، و”المتعاطفين” مع الشيوعية.

كان السيناتور مكارثي هو مجرد واجهة لسياسة أمريكية، ترغب في الإمساك بمضرب الذباب والضرب به يمينا ويسارا، دون هدي أو دليل، للبحث والتنقيب عن أي شخص تشتم منه إن لديه أي ميول يسارية. كانت السياسة “المكارثية” للدولة وقتها، هو إطلاق الاتهامات الجزافية، دون دليل أو بينة، استصدار قوانين تعسفية تعطي الحق للإدارات في المؤسسات بفصل الموظفين في حال “استشعارهم” بأن هؤلاء الموظفين لديهم “عاطفة” شيوعية، بث الخوف والذعر عبر القنوات الإعلامية، والصحف من تمكن الشيوعية، وهدم الولايات المتحدة الأمريكية، وأسلوب الحياة الأمريكي، إشعار العامة بأنهم مهددون في حياتهم وأقواتهم بسبب تغلغل الشيوعية وقيام الاتحاد السوفييتي بزرع جواسيسه في الولايات المتحدة، حتى وصل الأمر ببعض المواطنين إنهم أبلغوا السلطات عن ذويهم وأبنائهم. استهداف شخصيات عامة ربما يكون لها تأثير في المجتمع، مثل الإعلاميين، و
الكوميديانات، والممثلين، والكتاب، والمخرجين، والعلماء، وتشويههم، واتهامهم بالعمالة والتجسس لصالح الاتحاد السوفييتي دون بينة أو دليل، وفي حال عدم ثبوت التهمة بأدلة دامغة، يتم اغتيال شخصياتهم وتشويه سمعتهم، حتى بات بعض المشاهير لا يستطيعون السير في الطرقات، لأن المارة يعتدون عليهم بالسباب والضرب وهم يرددون:

، بالعربي: شيوعي معفن

وكان يتم تشجيع العامة على الاعتداء على هذه الشخصيات في الشارع من قبل الأبواق الإعلامية التي تهلل للسياسة المكارثية وتتبناها. أما أولئك الذين رفضوا هذه السياسات من مقدمي البرامج والإعلاميين، فقد تم فصلهم من عملهم، كما حدث مع الكوميديان جون هنري فولك.

الحقيقة إنني أرى في نسب هذه السياسات للسيناتور جوزيف مكارثي ظلم كبير، أو محاولة من الدولة الأمريكية للهروب من المسئولية، ذلك لأن السيناتور كان رمزا للمرحلة وواجهة فعلا، لكنه لم يكن سوى أداة استخدمتها المباحث الفيدرالية، والتي قدمت معلومات كثيرة مغلوطة، وبها لبس، وتحتمل أكثر من معنى، وفسرتها على المعنى الأسوأ لاتهام الناس في وطنيتهم، وعقيدتهم وتشويههم، وكان رئيس المباحث الفيدرالية آنذاك، إدجار هوفر، هو المسئول الأول عن بث هذه المعلومات المغلوطة، والمشوهة لاغتيال الشخصيات، كما إن القضاء في ذلك الوقت كان شامخا بحق، فقد أصدرت إحدى المحاكم قرارا بمنح المدارس حق فصل المعلمين في حال “تشككها” في انتماءاتهم، كما أيدت المحكمة الأمريكية العليا الحكم، وتم فصل آلاف المعلمين والموظفين العموميين من أشغالهم.

في ذلك الوقت، نشطت لجنة التحقيق في الأعمال العدائية للولايات المتحدة الأمريكية، وكانت كل يوم الصبح على الله تستدعي من يعن لها أن تستدعيه دون بينة أو دليل، وهاتك يا تحقيق، واستخدمت اللجنة أساليبا غير مقبولة في التحقيق، بالطبع لم تقم بتعذيب المتهمين أو تعليقهم، لكنها استخدمت التعذيب النفسي، والابتزاز، والضغط، حتى إن بعض المحقق معهم لم يصمدوا أمام هذه الضغوطات، مثل المخرج إيليا كازان، الذي اعترف بالانضمام للحزب الشيوعي في منتصف عشرينياته، وأورد بعض أسماء أصدقاء له من كتاب وفنانين أمام اللجنة، مما أثار حفيظة الكثير من أصدقائه، مثل آرثر ميلر، ومارلون براندو، اللذين هاجموه علنا، وقطعوا صلاتهم به. تم توسيع “قائمة هوليود السوداء”، لتشمل عددا كبيرا من المخرجين والمؤلفين والممثلين وكل من يعمل بصناعة السينما…. ده حتى جيمس دين، جيمس دين الأمور ده، قالوا عليه شيوعي.

اٌعتقل عدد كبير من الأبرياء، بموجب القوانين التي استصدرت، لتطلق يد المباحث الفيدرالية عابثة في الحريات الشخصية، منتهكة حرمات المواطنين. وكان أبسط ضرر يقع على المواطن أن ينشر صورا لها علاقة بحياته الشخصية، أو ابتزازه بأفراد أسرته.

في البداية، حظت السياسة المكارثية بشعبية واسعة، بسبب الخوف والهلع والرعب الذين كانت تسقيهم الدولة للمواطنين صباح مساء: الشعوعيين جايين… الشعوعيين حيموتونا كلنا… الشعوعيين حييجوا ياخدوا منك البيت والعربية اللي أنت تعبان فيهم ويدوهم لواحد مشرد عشان دي العدالة الاجتماعية.

شعوعية يعني إيه يا برادعي؟ يعني أمك ما تروحش النادي تعوم في البيسين.

لك أن تتخيل حجم الضرر الذي وقع على الولايات المتحدة الأمريكية من هذه السياسات، إذا علمت أن ألبرت أينشتاين، العالم الجليل الذي أحدث ثورة في مجال الفيزياء غيرت وجه التاريخ، كان أحد ضحايا المكارثية. وأن كاتبا كبيرا بقامة دالتون ترامبو، كاتب فيلم سبارتاكوس، منع من مزاولة عمله بسبب اتهامه بالشيوعية.

كيف انزوت المكارثية؟

بالناس. الناس وفقط. بدأ الناس، الذين كانوا يدعمون المكارثية، ويبلغون السلطات عن أبنائهم وذويهم، يشعرون بقبح ما يفعلونه، ذهبت السكرة وجاءت الفكرة، نظروا إلى أنفسهم في مرآة ضميرهم فوجدوا كائنات متوحشة، هيستيرية، صارخة دوما، فزعة دوما، أقدمت على أفعال مشينة لم تكن لتقدم عليها وهي بكامل عقلها، أوقعت الضرر بأناس أبرياء، قد يكون بينهم أشخاص أعزاء، تصرفت ببذاءة في الطرقات مع أشخاص لم يؤذوها في شيء. بدأ الناس يستمعون لرئيسهم السابق ترومان – آنذاك – الذي انتقد خلفه آيزنهاور قائلا: نحن في دولة حريات نعاقب الناس على جرائم اقترفوها لا على أفكار اعتنقوها.

هدأوا ليستمعوا إلى الأصوات الخافتة التي كانت تناشدهم التعقل، مثل الصحفي إلمر دافيس، والإعلامي إدوارد ر مورو، الذي خرج ذات يوم صارخا في الجمهور الأمريكي طالبا منه أن ينظر إلى ما أوصله عقله الضال الذي أنصت إلى باعة الخوف.

ومع رجوع الناس إلى عقلها، ومع تزايد همسات الرأي العام: لقد أصبحنا وحوشا… لقد حولتمونا إلى وحوش. بدأت السلطات الأمريكية في التراجع، فقام الكونجرس بالتحقيق مع السيناتور جوزيف مكارثي، حيث قام السيناتور، الذي أخذته الجلالة ونسي نفسه، ونسي إنه كان مجرد ألعوبة في يد المباحث الفيدرالية التي استخدمته ثم قررت الخلاص منه، فاتهم لجنة التحقيق بأنهم متعاطفون مع الشيوعية، حتى قال له رئيس هيئة التحقيق ما ترجمته بالعامية: تصدق إنك راجل ما عندكش دم؟

استشعرت الأجهزة الاستخباراتية الأمريكية إنها أثقلت على الجمهور الأمريكي، وأن ما فعلته بهم قد يأتي بثورة حقيقية عليهم، أو ربما يخدم الشيوعية، هكذا الناس، الناس طيبة بطبعها، لكن “كلمة تجيبها وكلمة توديها”، وحين تهددها برزقها وتزرع الخوف بداخلها، قد تأتي ببعض الجرائم، لكنها حين تعود لنفسها تكره من دفعها لتلك الأفعال، وتثور عليه، وقد تقوم بردة فعلة عصبية، وتنحاز للفئة التي طالما ظلمتها، فكان على الأجهزة الأمريكية أن تسرع بتقديم كبش الفداء، وهو جوزيف مكارثي، وأن توعز إلى القضاء الأمريكي الشامخ بنقض كل ما استصدره من قوانين، بل والمزايدة على الشعور العام، واستصدار قوانين أكثر ليبرالية، وإعادة المفصولين إلى أعمالهم، وإطلاق سراح المقبوض عليهم، وغسل صورة من تم تشويههم، بل ومنح كل هؤلاء التعويضات المادية اللازمة، كل هذه الإجراءات، كانت لاستيعاب الرأي العام الذي تحول مع الوقت من مؤيد لغاضب. وتعالى يا إف بي آي، شيل الليلة كلها لجوزيف مكارثي، إمشي يا مكارثي، وحش يا مكارثي… الدولة والشعب بيحبوا بعض وما يستغنوش عن بعضيهم أبدااااااااا.

وتوتة توتة فرغت الحدوتة… حلوة ولا ملتوتة؟

طيب، ما علاقة كل ذلك بما يحدث في مصر؟

هذا ما سنعرفه في الحلقة القادمة.

 

المصدر:هنا صوتك