هناك خطأ فى الحساب والجمع، لسنا شعبين، بل نحن أربعة شعوب، وقد بدا الانقسام على أشده حتى إن كل طرف يقول إنه لا انقسام البتة، فالشعب المصرى، الذى هو الشخص المتحدث، لم يكن متوحدًا مثل الآن، ذلك، لأن المختلف مع المتحدث ليس شعبًا مصريًّا بالأساس.
الشعب الذى «يكافح الإرهاب»، يرى إن الشعب الذى يتحدث عن «شرعية» رئيس معزول، ليس شعبًا مصريًّا، والذين يدافعون عن المعزول يرون أن الذين هم ضده ليسوا سوى انقلابيين، والشعب الثالث الذى يزدرى الاثنين، لا يراهما شعبًا، بل يراهما ضدَّ الثورة، وقد انقسم الشعب الثالث على نفسه، فمنهم من مال قليلًا نحو مكافحة الإرهاب، ومنهم من مال قليلا جهة «الشرعية»، ومنهم من وقف حائرًا فاغرًا فاه، ومنهم قرر أن يقوم بثورة لوحده هو وصحابه، أما الشعب الرابع فهو الذى أصابه وجع الدماغ، والملل واليأس، ولسان حاله يقول: قلت لنا يسقط حسنى مبارك قلنا يسقط فى داهية، قلت لنا الإخوان فصيل وطنى رُحنا انتخبناهم، قلت لنا طلعوا وحشين، قلنا يلّا يغوروا، قلت لنا نكافح الإرهاب، قلنا نكافحه، قلت لنا فيه غلابة بيموتوا فى النص قلنا حرام، قلت لنا ما الغلابة بيموتوا من الطرف التانى، قلنا حرام برضه، وبعدين بقى؟ دماغنا شوية، عايزين نهمد بقى! تعبنا!
كل شعب من الشعوب الأربعة يرى نفسه هو الشعب، وهو الشارع، وهو اللى خرطه الخرَّاط واتمدّد مات، وهو الذى يحب البلاد ويخاف عليها، وكل مَن دونه حيوانات غير عاقلة، وكل مخالف له ليس مصريًّا ابتداءً، بل هو عميل، ومتآمر، وخائن، وكافر، وسافل، ومنحطّ، وبيَّاع بَطّ، ومن ثم، فإنه يستحقّ الموت… يا رب يموتوا كلهم.. ماتوا؟ أحسن..
كل شعب من الشعوب الأربعة يبكى قتلاه كأن أحدًا لم يذُق مرارة القتل الغادر والظلم الكاسر سواه، وكأن طرفه لا يستحق الموت أبدًا، يجب أن يحيا أبد الآبدين، ويجب على من هم من الأطراف الأخرى أن يموتوا فورًا، وبأكبر عدد.
كل شعب من الشعوب الأربعة يأتى بأفعال مشابهة لخصمه، ويرفض تمامًا أن يتم مقارنته بالطرف الآخر: وانت عايز تحطّنا فى كفة واحدة مع «إرهابيين» مع «انقلابيين» مع «فلول» مع «خونة وبلطجية»؟
كل شعب من الشعوب الأربعة يرى فى القتل جريمة حين يُقتل من هم فى معسكره، ويراه ردعًا وكفاحًا حين يُقتل من هم فى معسكر الخصم.
كما أن كل شعب من الشعوب الأربعة يرى أن الحياد فى حد ذاته جريمة، ويا انت معايا يا مع التانيين.
طيب… أَمَة الله لا تريد أن تكون مع أى حد:
أنا لا أرى فى قتل ضابط أمن دولة مدعاةً للفرح، لا لأننى أحب ضباط أمن الدولة، فالشخص لا يتم تعيينه فى جهاز أمن الدولة لأنه يربى كلب لولو وقطتين شيرازى فى منزله ويضع حبات القمح للعصافير فى الشرفة، ولكن الداخلية لا تعين أحدًا فى جهاز أمن الدولة إلا حين تتيقن من أنه قادر على التعذيب والقتل والتلفيق، لكن القتل جريمة، لأن حل مشكلة جهاز أمن الدولة تكمن فى تغيير العقلية التى تديره، لا فى قتل عناصره على قارعة الطريق.
كما لا أرى فى قتل أُمّ أمام طفلها الذى لم يتجاوز السابعة، وطفق يلطم على وجهه ويصرخ فيها: «بالله عليكِ إصحى يا ماما»، حتى إن كانت تشارك فى اعتصام مسلَّح، فمن المؤكَّد إن هذه المرأة لم تكن مسلَّحة، ومن المؤكد أن ابنها لا ينام ليله إلا بصحبة الكوابيس المتتالية، ولا أرى فى قول: «قتلها مَن جاء بها، إلا مزيدًا من الإمعان فى الجريمة».
ولا أرى مبرِّرًا لجريمة قتل ثلاثة نزلوا ليُحْيُوا ذكرى «محمد محمود»، حتى إن كنت عارضتُ نزولَهم، فإن اعتراضى على نزولهم لم يكُن لاعتقادى أنهم طابور خامس، أو جزء من المخطط التركى لإشاعة الفوضى، ولكن لأننى أعلم أن الداخلية ترغب فى القتل لإعادة فرض هيبتها، وكنت أنأى بهم عن أن يبذلوا أرواحهم فى معركة عبثية لا تخدم الثورة، ولا تأتى بأى ثمار.
ولا أرى فى قتل 27 فردًا فى حادثة قطار، أمرًا عاديًّا، متكررًا، كما أشار السيد الببلاوى، وإنما أراه إهمالًا يرقى إلى حد الجريمة.
ثم إننى لا أقول عن أحد، حتى إن كان من الإخوان والداخلية الذين قتلوا أصدقائى: «يا رب يموتوا»، ثم إنهم حين يموتون، لا أشعر بداخلى بأنه «هيييه، ماتوا».
أربعة شعوب، لا يجمع بينهم سوى الموت، ولا يفرقهم سوى عبارة «أحسن إنهم ماتوا».