وائل عبد الفتاح يكتب | مع من تتعاطف اليوم
رغم مرور عام كامل.. ما زالت الحرب على «وصف» ما حدث فى «رابعة» تعلو ولا يُعلا عليها.. ما زال الانشغال الكبير بسؤال: مع مَن تتعاطف: الإخوان أم الشرطة؟
استقطاب يعبّر عن دوران فى فراغ لا نسمع فيه إلا الصرخات والشتائم.. وهذا يعنى أن الحرب مستمرة من دون خطوة إيجابية فى سبيل تجاوز المذبحة.. وقد أسميتها «مذبحة» من أول يوم وبعيدا عن عدد الضحايا الذى تنشغل به معارك الاستقطاب الآن. المذبحة هى قتل وحشى خارج القانون، ويزداد الأمر ضراوة عندما يرتكب هذه المذبحة «جهاز رسمى» لا يلتزم بما يحمى الحياة قبل أن يستسهل القتل.
البحث عن التعاطف وحده قادنا إلى هز الرؤوس وإلغاء التفكير.. فلا الأنظمة تقام شرعيتها على المذابح/ ولا يمكن تجاوز أثر حدث دموى بغض الطرف أو النسيان أو الإنكار..
الأثر سيستمر لعنة لا تبعد بطقوس دق الطبول أو نشر المباخر أو حفلات اللطم التى تلغى العقل.. ولا تبنى مواقف..
البحث عن التعاطف صنعة العاجزين أو تجارة الكوارث.. لأن التعاطف سيغيّب جزءًا من الحقيقة ويحول النصف الآخر إلى تعويذة لفريقه أو جمهوره الذى يريد أساسا إراحة الضمير.
هناك أيضا جمهور كبير يخاف من الضحية بعد أن قدمت نفسها بما يستحق الخوف (بداية من حفلة أمراء القتل فى الصالة المغطاة بجوار المرسى حتى منصة رابعة التى أثارت ذعرًا بتهديدات القتل والحرق والتكفير للجميع..) هذا الجمهور تمررت داخله فكرة «.. الإخوان أعداء» ومن الطبيعى أن نفرح لقتل الأعداء فى الحروب، ونرى المذبحة بطولة، ومجرميها يُحملون على الأعناق.
يتغاضى هذا الجمهور عن مستويات متعددة من القيم والمبادئ التى وصلت إليها البشرية تحت مبرر أنهم «أعدائى..» وهذه مشاعر خطر ما زالت فاعلة بقوة بعد مرور وقت ليس قليلًا يمكن الاكتشاف فيه أن الإخوان ليسوا أعداء.. لكنهم تيار تعامل بمنطق قبيلة الغزاة الذين يحتلون «بلدًا» يرونها ويروضون شعبها ليدخل ملّتهم. قادة الإخوان تعاملوا مثل أمراء خاسرين يدخلون حربهم الأخيرة (.. لأن التيارات الإسلامية لا تلعب سياسة ولكنها تمارس غزوات..) واعتبروا دفاعهم عن السلطة دفاعا عن الدين والخندق الأخير لنصرة الله فى مصر.. هذه الأوهام لم تكن وحدها سببًا فى تقديم المزيد من الضحايا أمام آلة أمنية شرسة ومفتقرة إلى الكفاءة وتريد استعراض سطوتها وجبروتها.. كانت هناك أسباب أخرى مثل الغباء الذى صوّر لأمراء الفشل الإخوانى أن هذه الأعداد من البنادق يمكنها توقيف آلة العنف الرسمى/ بل إنهم حشدوا أعدادًا من قادتهم الميدانيين ليلة الفض (رغم أنهم كانوا يعرفون بموعده).. هنا افتقر الاعتصام إلى سلميته (لكنه لم يكن مسلحًا ليكفى إشعال حرب أهلية) كما أن ما فعلته قوات الأمن كان استعراضا (وهم غالبا كانوا يريدونه أقل فى الضحايا) تحوّل إلى مذبحة كاملة الأوصاف..
الدولة الأمنية أرادت أن تسبق الجميع فى حل أزمة «رابعة»/ رغم أنها غير محترفة/ وخبراتها لا تؤدى إلا إلى الكوارث/ وقدراتها لا تحقق الأمن.
والنتيجة كما عشناها بعد خطة «الفض»: مذبحة لا تُنسى وفوضى أمنية لم تتم فيها حماية أرواح أخرى (المسيحيين مثلًا) ولا منشآت (كنائس ومحاكم). الإرهاب هو قرين الدولة الأمنية، والحرب إن استمرت بينهما أو بقيادة الأمن للسياسة فسنصل إلى وضع «الدولة الفاشلة» التى تتضخم فيها مؤسسات وتصل إلى أحجام غير طبيعية، وتعجز عن إدارة البلاد. المرعب هنا أننا لم ندرك ونحن نتأمل «المذبحة» أننا أمام مفارقة تحكم حياتنا كلها.. فالمذبحة هى محاولة الأمن ليحمى المجتمع من جيوش كان يربيها أمراء الإرهاب ليقتلنا. نعم تحاصرنا الكوابيس ونشعر بالألم على «مشاريع قاتلينا».. ولا يمكننا الرقص مع جوقة الدولة الأمنية على الجثث.
لكن التعاطف/ الألم يزداد تعقيدًا وغموضًا عندما نرى الكذب الإخوانى مستمرا.. بل إنهم لم يحاسبوا قادتهم لماذا قادوهم إلى الذبح؟ أو لماذا تركوهم ليقتلوا؟ أو حتى ما الذى يبرر نشر الرعب المستمر وحرق كل شىء لأنهم فقدوا السلطة ومعها القدرة على تحويلنا إلى قطيع يسمع ويطيع أمراء الكراهية. الفاشية الفاشلة ذات الرأسين تضعنا فى مأزق.. إما أن نُقتَل وإما نبكى على مشاريع قاتلينا.
.. ويبقى سؤال:
هل يمكن أن تُبنى المواقف حول منطق آخر غير التعاطف.. مثلا: عدم تكرار هذا المشهد/ المذبحة.. وعدم الوقوع مرة أخرى فى موقع المتفرج على حرب بين «قاتلين» والحياة فترات تحت وقع «طرطشة الدم..»؟