أحمد الدرينى يكتب | المقال رقم 100

أحمد الدرينى يكتب | المقال رقم100

أحمد-الدريني

المقال الذي تطالعه الآن، هو المقال رقم 100 لي في «المصري اليوم». ربما يبدو الأمر هامشيا أو عبثيا برأيك، فما الذي يعنيه لك أو لغيرك أن يكتب شخص ما مقاله الـ100 في منفذ نشر بعينه؟

على خلاف ما قد تستشفه، فهذا المقال ليس شخصيا تماما، فهو تأريخ إجباري لشيء يخصني كما يخص قارئي هذا الموقع. وهو أيضا ليس توثيقا لشيء- اتفقت أنا وأنت أنه ليس مهما بالضرورة لك، لكنه حتما يعني لي الكثير.

كتبت هنا 100 مقال، الله وحده يعلم الجهد الذي استغرقته مني، والغرض من ورائها، كل مقال على حدة، وكلهم في مرمى الرئيس.

لكن على مدار هذه الرحلة التي بدأت قبل عام ونصف العام، وتحديدا قبل شهرين من الإطاحة بحكم الإخوان، كان كل شيء يتغير بوتيرة متسارعة.

رغبات القارئ/ الانحيازات المعلنة/ طريقة إدارة هذه الانحيازات/ طريقة التعبير عن مواقفك في الأزمات والأحداث الكبرى/ كيف سيصنفك القارئ/ كيف تكتب مقالا ناجحا؟/ ما معنى النجاح؟ إلى آخر هذه التجاذبات التي تضطرك الظروف أن تخضع لها مادمت اخترت أن تكتب.

والمدهش، أن معظم المقالات التي تصدرت «الأكثر قراءة» في عداد قراءات «المصري اليوم»، كانت تلك التي تنتمي إلى أو تتاخم جانبا من جوانب الاستقطاب الدائر في هذا البلد.

بمعنى أن المقالات التي كان يفهم منها معاداة أو مناصرة هذا التيار أو ذلك الجناح، هي التي كانت تسلك طريقها بسلاسة نحو «الأكثر قراءة» وبالتبعية الأكثر حصدا لعلامتي «لايك» و«شير»، بمعزل عن قيمتها كمقال ينتجه كاتبُ عاديُ، يؤخذ ويرد على كلامه، تتفق وتختلف معه.

وهنا نحن بصدد إحداثيين اثنين.

أولهما متعلق بمهنة الصحافة ويمسني بصورة مباشرة، وهو مقدار انتشار وذيوع ما تكتب، أو بلغة أكثر جفافا: مقدار الكليكات التي يمكن أن تحصدها قصتك. ففي عالم صحافة الإنترنت، منافسة متوحشة، بين مئات القصص اليومية على من يجتذب القراء وكليكاتهم.. والكليكات المنثورة هنا وهناك تهدر قيم كثيرة وسط زحام البحث عن الـ traffic.

الآن، حين تتعاقد بعض المؤسسات مع الصحفيين على الكتابة لصالح مواقعها، يتم الاتفاق على عدد معين من الكليكات يمكن أن يوفره هذا الكاتب لقصته أو لمقاله، ويتدخل هنا بالطبع بصورة حاسمة مدى ثقل «بروفايله» على فيسبوك وتويتر وعدد المتابعين «الفاعلين» الذين سيحققون لأطول مدى ممكن نجاحا مضمونا لقصصه المنشورة، بمعزل عن قيمتها.

ومن ثم فإنك في إطار المنافسة الشرسة، بل وفي إطار محاولة «أكل العيش»، تضطر اضطرارا لخوض المعركة بأدواتها، ما استطعت وما اتفقت الأدوات مع مواثيقك الذاتية.

بوضوح أكثر..كي تكتب مقالا ناجحا، اشتم السيسي أو دافع عنه..قلها بصراحة، وغازل عشرات الآلاف من الأنصار الولهين، أو داعب عشرات الآلاف من الشانئين الكارهين، فكل دائرة تكفل لقصتك نجاحا وذيوعا. المهم أن تراهن على دائرة من الدائرتين.

أما الكتابات التي تسعى للشرح والتفسير أو حتى مشاركة القارئ الحيرة القيمية في فهم ما يجري، فكل نصيبها من الدنيا كليكات الأصدقاء والأسرة فحسب.

ومن ثم فإن نداهة «الكليك» المتوحشة، تفرض عليك انحيازات سافرة أو مناورات غير مضمونة العواقب، إلا إذا كنت صريحا مع نفسك ومتسقا مع أن الأمور طيفية، وأن كل ما جرى ويجري في السنوات القليلة الماضية ليس أسود تماما ولا أبيض مطلقا، ومن ثم فإن في براح الألوان متسعُ لأن تستوعب الأحداث وتفسرها. فضلا عما تراه أنت أبيض وأسود بلا جدال.

ثم الكتابة ليست دينا! ليس من وظيفة المقال أن يتركك على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.. وليس من وظيفة المقال أن أعلن فيه عن انحيازاتي وآرائي في كل شيء من بدء الخليقة حتى فنائها.

الشاهد هنا أن الكاتب، أيا كان ما يعتقده وأيا كان مذهبه في تأمل ما يجري ومحاولة الاشتباك معه تفسيرا أو إبداءً لرأي راق هؤلاء أو أزعج أولئك، أصبح واقعا تحت ضغوط شتى، في بيئة أسهل ما فيها أن يسب قارئ أباك وأمك واللي جابوك في تعليق لا يرد أذاه عنك إلا تطييب خاطر من شخص تثق في رأيه أو تطمئن إلى مواساته، وما أكثر الشتامين هنا!

أما الإحداثي الثاني، فيتعلق بتغيرات المجتمع المتسارعة، وبالبيئة السياسية شديدة الاستقطاب زاعقة الصوت، التي لا ترغب في أن تسمع شيئا يخالف معتقدها أو على الأقل لا يناصره.

هذه الشراسة في التشاتم والتخوين والتصنيف التي تجري يوميا على مواقع التواصل الاجتماعي، والتي تصل لحد التصفية المعنوية، ليست منفصلة عن حوادث خطف الأطفال في الشوارع واغتصاب السيدات في ميدان التحرير وتفجير أكمنة الشرطة وتعذيب الناس في المعتقلات والسجون.

العنف كله ملةُ واحدة، وكل منا يمارسه من نافذته التي يستطيع أن يمارسه من خلالها.

لا أستثني نفسي بالطبع، فكلنا على مدار السنوات الـ4 الماضية، تعرضنا لضغوط مذهلة ولأحداث إن لم تكن قد شوهت أدوات تلقينا الذهني والعاطفي، فإنها لم تتركنا على سجيتنا الأولى بحال من الأحوال.

وليس منا إلا وله قريب أو صديق، قد طالته نيران هذا الطرف أو ذاك. الأمر الذي انسحب على أدائنا، توترا وشراسةً ليس فيها من التراحم أو التعقل شيء.

أحسست كثيرا بتحامل قراء من طيوف شتى على ما كتبت، واندهشت وفرحت أكثر بردود أفعال قراء من طيوف شتى أيضا واحتفائهم بهذه التجربة.

ومع المقال رقم 100، أشهد قارئي في هذا المنبر، أنني- ما استطعت سبيلا- حاولت أن أشرح وأفسر وأبحث، نزيها قدر ما حالفني التوفيق، مبديا انحيازاتي بما لا يجورعلى تقييمي العام لما يجري. وكلنا أسير انحيازاته.

جانبني الصواب في كثير مما كتبته، وأثبتت الأيام صحة ما ذهبت إليه- برؤية وتفسير دقيق أو بحظ ومصادفة طائشة، سيان!- وجافاني التوفيق في أحيان أخرى، شأني شأن كل البشر في كل عمل بشري.

غير أن الأكيد، أنني اجتهدت قدر استطاعتي. شاكرا الله أن أمدني بعونه حتى هذا الشوط، وشاكرا لكل الأصدقاء الذين عاونوني حتى وصلت إلى هذه النقطة.

وعلى رأسهم أحمد سمير الذي كان يبحث لي بإصرار عن نافذة أكتب فيها، ثم عمر الهادي الذي طلب مني الكتابة للموقع وقت تقلده مسؤولية إدارته، ثم تامر أبوعرب الذي بذل جهدا موفورا كي أكتب مرتين أسبوعيا بدلا من مرة واحدة.

ثم أفاضلُ كثيرون، راجعوني فيما كتبت قبل أن أنشره، لغة ومنطقا وتناولا، وصححوني وبادلوني الرأي وبذلوا النصيحة، ولا يعرفهم أحد. فلهم الشكر كل الشكر.

وقبل هذا كله، رفيقا العمر، إبراهيم الجارحي والحسين يحيى، اللذين هدداني ذات ليلة شتوية مطيرة بأنني إذا لم أعدهم فورا بالبحث عن منفذ أكتب فيه مقال رأي منتظم، سينزلاني من السيارة التي كنا نستقلها بعد منتصف الليل على محور 26 يوليو، كي أبحث بنفسي على مواصلة تقلني إلى حيث أذهب! وكان أن انصعت، وكان أنك تقرأ هذا المقال بعد أقل من سنتين على الواقعة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المصدر:المصرى اليوم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *