أيمن الجندى يكتب | الأنامل السحرية

أيمن الجندى يكتب | الأنامل السحرية

د.-أيمن-الجندى1

موهبتى موهبتى لا تقل عن موهبتهم، وأناملى أرشق من أناملهم. هل تريدون أن تعرفوا من أنا؟ إحم. إحم. أنا نشال…

 

أراكم بالطبع تجفلون. وربما تضحكون ضحكة صغيرة! أو تلتفون خلفكم فى ذعر. وربما تستدعون الشرطة. أو ترفعون أحذيتكم لضربى. هكذا العباقرة الحقيقيون لا يقدرهم أحد. ولا تنحنى البشرية لموهبتهم! أم تراكم تنكرون موهبتى؟ لو كان الأمر كذلك فدعونى أحكى لكم حكاية الأنامل.

 

هل شاهدت عازف البيانو؟ هل شاهدت تتابع أنامله وهى تضرب على المفاتيح البيضاء والسوداء؟ هل شاهدتها وهو يلمسها فى رقة، فتنثنى تحت سحر أنامله؟ كتموج غصون البان تحت هبة من الهواء المحمل بالياسمين؟

 

من يفعل ذلك؟ إنها الأنامل!

 

وبماذا يقود المايسترو فرقته الموسيقية إن لم يكن يقودها بالأنامل. يبعث كل إصبع منها إشارة إلى عازف الكمان وحامل الطبلة وعازف العود. يظن الناس أن الأنغام تأتى من الآلات الموسيقية والحقيقة أنها تنبعث من أنامل المايسترو. شحنة سحر من الأصابع السحرية فيعلو النغم الحزين.

 

وهذا الجراح العبقرى؟ كيف يعمل فى حيز دقيق؟

 

غرفة العمليات. والضوء الصناعى البارد. والصمت الذى لا يقطعه سوى هزيز التكييف. والممرضات ذات الزى الأخضر، والكشاف الأبيض الساطع ورائحة البنج والعقاقير. وجسد المريض الراقد مستسلما تماما للقدر الآتى، والفتحة الصغيرة المحاطة بالملاءات الخضراء.

 

ثم يدخل الجراح كمايسترو. يجلس على المقعد الدوار، لا يظهر منه إلا عينان ساطعتان خلف اللثام الأخضر، وتبدأ المعزوفة بأنامله السحرية. تتحول الجراحة إلى نوتة موسيقية تعزفها أنامل! تعرف أين تذهب! وتعرف متى تجىء! كيف استطاعت الأنامل أن تفعل كل هذا؟ إنها المعزوفة! إنها المعجزة البشرية!

 

هل صادفت يوما كاتب كمبيوتر محترفا وهو يعمل على لوحة المفاتيح؟ لا ينظر على الإطلاق إليها. وأنت مبهور الأنفاس تحدق فى الأنامل. ترتفع وتنخفض! تنثنى وتستقيم. تتراقص ذات الشمال وذات اليمين.

 

فى كل صباح حين أستيقظ من النوم، أبتسم ابتسامة صغيرة وأقول فى نفسى متأملا أصابعى الرقيقة: «إنها أناملى. سر موهبتى».

 

أنا فنان. لكنى لا أستطيع للأسف أن أجهر بفنى. لا بد أن أمارسه خلسة. هذه الأصابع الدقيقة الرقيقة أفعل ما لا يستطيع أن يفعله أحد.

 

أذهب إلى حيث الزحام. أتأمل وجوه البشر. أحاول أن أعرف حكايتهم. تعجبنى فكرة أنهم يعملون من أجلى. هذا الرجل يبدو كمن سافر إلى الخليج. وهذا يبدو كمن يعمل فى أوروبا. وهذه تعمل فى التجارة. أشعر بأننى نهر كبير تصب فيه الروافد كلها.

 

شعور جميل أن يعمل الناس، يرتحلون فى أرجاء الأرض، ينامون ويستيقظون. يملون ويفرحون. يجمعون دنانيرهم الصغيرة ويكدسونها فى جيوبهم، ثم آتى أنا فأحرك أناملى السحرية وأخلصهم من عبء النقود.

 

أقول لهم بصوت هامس، وأنا أتأملهم فى محبة: «هيا أيها الكسالى. اعملوا من أجلى واجلبوا لى النقود».

 

مهنتى رائعة، لا أظنكم ستجادلوننى فى ذلك. لكن لها مخاطرها: لو تم اكتشافى فسوف أنال علقة تستخدم فيها الأحذية والأقدام. شىء مؤسف هذا التعصب. أقوم فى نهاية الأمر بعد أكل العلقة، أصلح من هندامى، أنظر لهم فى احتقار: «آه يا بلد العجائب الذى لا يقدر الفنان».

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *