أيمن الجندى يكتب | زهيرة

أيمن الجندى يكتب | زهيرة

د.-أيمن-الجندى1

لم يكن هذا البرج العالى طوبا وحديدا فحسب، بل كان عزلة وجليدا أيضا. لا أحد فى هذا البرج يعرف جيرانه. السيدة «زهيرة» كانت من أوائل الذين سكنوا البرج فى الدور الثانى عشر. هناك حيث المشهد الساحر لنيل القاهرة وهو يعانق الأهرامات. نادرا ما كانت تقف لتتأمله. وإنما هى النظرة الباردة، لامرأة تعلمت أن تكبت مشاعرها حتى أورثها طول الكبت البرود.

جارتها آمال التى سكنت هذه الشقة حديثا كانت على العكس منها تماما. هى لم تقتنع داخلها أنها أصبحت زوجة على أعتاب الأمومة. زوجها هو الآخر فى داخله طفل. طفلان يعمران الشقة بهجة وحماسا وينعمان بعذوبة البدايات.

شاهدت آمال السيدة زهيرة عدة مرات وهى تدخل وتخرج. ألقت عليها السلام لكنها أقنعت نفسها أن جارتها ضعيفة السمع أو ردت بصوت منخفض. لم تكن تسمح لشىء أن يعكر صفوها وحماستها للحياة.

التعارف الحقيقى تم عندما أبصرت السيدة زهيرة مُلقاة أمام الباب. بعد قليل استعادت المرأة العجوز وعيها، لكنها رفضت بشدة الذهاب إلى مستشفى، وآثرت العودة إلى السرير.

سألتها آمال عمن سيعتنى بها، وصدمها أنها تقيم فى البيت وحيدة بعد أن مات الزوج وتفرق الأبناء. لقد نشأت فى أسرة كبيرة تجمعها المودة. وأصرت أن تسهر بجوارها كى تطمئن عليها. نامت زهيرة بسرعة فشرعت آمال تتأمل تجاعيد وجهها العجوز فى عطف وحنان.

فى الصباح استيقظت كلتاهما على النور الذى غمر الغرفة. أعدت لها طعام الأفطار ثم هرعت إلى زوجها قبل أن يذهب لعمله لكى يتناولا طعام الإفطار.

لا أحد يدرى المشاعر التى كانت تعتمل داخل السيدة زهيرة وهى تلقى هذا الاهتمام البتول من فتاة فى عمر ابنتها. ابنتها التى رحلت عن البيت بعد أن واجهتها وحمّلتها ميراث الشقاء الذى ناءت به فى طفولتها. تكدر وجه زهيرة حينما استعادت الذكريات المؤلمة. ذات يوم ما كانت زهيرة بنتا تتوق للحب مثل سائر البنات. لكنها تزوجت من رجل يكبرها بكثير، فاقد الحماسة، بارد المعاملة، كئيب الطباع. اكتسبت طباعه الباردة بالتدريج حتى صارت مثله، امرأة فاقدة الحماسة، ناضبة، غير قادرة على الفرح أو الحزن. لذلك عاش أبناؤها طفولة كئيبة لم يغفروها لها قط. بمجرد أن شبوا عن الطوق حتى رحلوا وذابوا فى زحام الحياة.

حاولت زهيرة أن تقاوم الصداقة الطارئة التى لم تعتدها. لكن عذوبة آمال كانت مثل قطرات الندى التى تتجمع على أوراق زهرة ذابلة، فإذا بالوردة تحيا من جديد. ولأول مرة تجد زهيرة من يحتفل بيوم ميلادها. هذه أشياء لا عهد لها بها. دبرت آمال كل شىء ودعت المقربين من صديقاتها وجيرانها. أُطفئ النور، وتراقص وهج شمعة وحيدة، لم تصدق زهيرة نفسها وهى تسمع نشيد عيد الميلاد التقليدى، وبرغم أن الزمن لم يستغرق دقائق معدودة، فإن زهيرة استعادت شريط حياتها بأكمله. حلمت بأنها تزوجت رجلا آخر، رجلا يمتلئ برحيق الحب والحماسة للحياة، شاهدت أبناءها وهم يكبرون فى جو صحى يحوطه الحنان والرعاية.

والذى حدث بعدها لا يُصدق. ولولا أن زهيرة شاهدته بعينها لما صدقته. حينما جعلتها آمال تنفخ فى الشمعة الوحيدة، وأضاءت الثريا المتلألئة فى سقف الصالة، فإن زهيرة وجدت أبناءها بجوارها، ينظرون إليها بكل حنان الدنيا، حنان يشبه ما تطالعه فى عيون آمال.

 

المصدر:المصرى اليوم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *