أيمن الجندى يكتب | عطلات الزمان الخالى

د.-أيمن-الجندى1

 

 

من حق كل إنسان أن يرتب عطلته على النحو الذى يناسبه. بالنسبة لى فقد كانت أجمل إجازة ممكنة بالنسبة لعطلة نهاية الأسبوع أن أستيقظ متأخراً صباح الخميس. أكون قد أعددت حقيبة صغيرة تناسب احتياجات يومين. أستقل القطار الإسبانى المتوجه إلى الإسكندرية، الذى يصل غالباً فى حدود الثانية والنصف. أكره قيادة السيارات وأحب أن أُحمَل ولا أَحمِل! لماذا أتوتر طيلة ساعتين وأفادى السيارات المسرعة وتوابيت متنكرة فى صورة ميكروباص!. الأفضل أن أسترخى على المقعد الوثير للقطار استرخاء من عمل بكد طوال الأسبوع واستحق أن يدلل نفسه فى العطلة. أنشغل بسماع الأغانى التى أحبها من خلال سماعة أذن صغيرة. أشاهد روعة الريف المصرى وخضرته المترامية والسلام النفسى لجاموسة سمراء كسولة تسير الهوينى، عالمة أنه لا شىء يستحق الركض، وأن نصيبنا المقسوم فى تورتة الحياة سنحصل عليه، شئنا أم أبينا.

هكذا أستغرق فى التأمل حتى يصل القطار فى الوقت المحدد. يخترق التاكسى الشوارع المألوفة كشرايين الروح. محطة الرمل التى أعشق بيوتها السكندرية ذات الطابع اليونانى. يطالعنى البحر كلجة زرقاء لا يفنى سحرها رغم توالى السنين.

أقف فى شرفة الفندق. أعب هواء البحر المتحرر، أتأمل طيور النورس، أشبه بطائرات الأطفال الورقية، تحركها الرياح بلا إرادة. أتساءل عن منظورها للبحر، بل عن رؤيتها للحياة.. أليس محزناً أن نحيا وسط ثروة من الكائنات الأخرى، لها بلا شك مفهوم آخر للحياة، من الممكن أن يكون أعمق وأكثر ثراءً واتصالاً بالطبيعة من تكالبنا المحموم على الحياة.

أتمنى أن أنظر من خلال عينيها إلى البحر الأزرق! أتمنى أن أشاهد الأسماك مثلها وتحملنى الرياح بلا مقاومة. أتمنى أن أنظر للدنيا من علٍ، فأستطيع أن أكوّن للحياة صورة كليّة، وأفرق بين النفيس والخسيس، بين ما يجب أن نهمله، وبين ما يستحق أن نموت لأجله.

عندما يهبط الغروب أهبط إلى محطة الرمل، أستمتع بعبق التاريخ والمسرات الحقيقية. أتأمل بعين محب المنمنمات والنقوش البارزة. أتفاعل مع البيوت والجدران والأزقة القديمة. أرتشف عصير الدوم فأستعيد نكهة طفولتى. أذهب إلى مسرح سيد درويش إن تصادف وجود حفلة موسيقية. كثيرةٌ هى المتع الصغيرة التى تدخرها لنا الحياة حتى نصبح جديرين بأن نتذوقها. تخرج من جوفى «الحمد لله» خالصة من القلب، أنه وهبنى النعم ووهبنى القدرة على الاستمتاع بها، ووهبنى معرفة الخالق ورؤية آثار نعمته. فى صباح السبت أعود بالقطار إلى معمعة العمل، ليبدأ أسبوع آخر.

■ ■ ■

لسنوات عديدة كنتُ أرتّب عطلات نهاية الأسبوع على النحو الذى كتبته. أتمنى الآن أن أعيد الكرّة! أتمنى أن أقول للزمان: «عد يا زمان». أتمنى أن أفهم لماذا لم أكن سعيداً وقتها، ولم أرض بالمتاح! هل كان عهد مبارك جيداً ونحن لا ندرى! لماذا لم يخبرنا أحد، ونحن نحلم بالتغيير، أن مخاضاً سوف تمر به مصر، والمخاض للأم هو ألم طويل عسير قد يأتى المولود بعده حياً أو ميتاً!. لماذا لم يتنبأ أحد الذين يدّعون الحكمة أن الفوضى قادمة! وأننا سنُعاقَب بتعثر الخدمات حتى نكره أنفسنا. كنا نطمح أن نصبح أفضل، ويجد البؤساء مكاناً تحت الشمس، ولا يُجلد الفقراء بالسياط حتى الممات، ولم يخطر ببالنا أن الوقود سيشح والكهرباء ستنقطع والدماء ستسيل والسياحة ستحتضر والقطارات ستتوقف.

 

المصدر : المصرى اليوم

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *