أيمن الجندى يكتب | مُذْنبٌ بالاشتباه

أيمن الجندى يكتب | مُذْنبٌ بالاشتباه

د.-أيمن-الجندى1

لو كان الأمر بيدى لحملت التسعين مليون مصرى على مشاهدة هذا الفيلم. كالعادة ينير لنا الفن الطريق. يكشف لنا بأنواره السحرية الهوة العميقة التى يمكن أن نسقط فيها، ويعلمنا من تجارب الأمم السابقة أن حمل المجتمع على رأى واحد- مهما بدا من وجاهته- يحمل أخطاراً عميقة، ويحول حياة الأمم إلى جحيم.

عن فيلم «Guilty by suspicion» أتكلم. رائعة روبرت دى نيرو. المخرج السينمائى الذى عاد إلى أمريكا فوجدها تصطلى بنار المكارثية. نحن الآن فى خمسينيات القرن الماضى. كان جوزيف مكارثى عضواً فى مجلس الشيوخ الأمريكى، وكان يكره الشيوعية كالشيطان! ويخشى على بلاده من زحفها القادم، لكن المشكلة أنه استثمر نذر الحرب الباردة عام ١٩٥٠ ليوحى بأن هناك عدداً كبيراً من الشيوعيين فى الحكومة الفيدرالية الأمريكية. وهنا نشأ مصطلح «المكارثية» للتعبير عن اتجاه سياسى رجعى يهدف إلى تشديد الرقابة على الشيوعيين.

ولعله كان صادقاً فى حب بلاده، لكن خطيئته أنه أراد أن يحمل المجتمع الأمريكى على رأى واحد. وبدأ جحيم الشك فى كل مواطن: هذا شيوعى! هذا جاسوس أحمر! هذا خائن لوطنه ولا حق له فى الحياة.

وهكذا وجد دى نيرو أمريكا أخرى. صار الناس يخشون الهمس إلى بعضهم البعض. أصدقاؤه يحرقون كتبهم التى تحتوى على أى أفكار يسارية! الأصدقاء يتجسسون على بعضهم، والزوج يشى بزوجته! مطلوب منه قبل أن يعهدوا إليه بإخراج أى فيلم أن يُبرئ اسمه! ولكن من قال إننى متهم أصلاً؟ لقد حضرتَ اجتماعين منذ اثنى عشر عاماً للحزب الشيوعى فكرهوك وكرهتهم! لكن مطلوب منك أن تشهد بالزور على أصدقائك وإلا حطمنا حياتك.

هم لا يريدون منه إلا أن يُدلى بأسماء. ولا يهم أن يحطم بعدها حياة أبرياء. لا يهم أنه لن يستطيع بعدها أن يتطلع إلى نفسه فى المرآة! وهو يحب أن يتطلع إلى صورته فى المرآة! وهكذا انطفأت حياة دى نيرو تماماً. جميع منتجى الأفلام تخلوا عنه رغم أنه أخرج لهم أفلاماً ناجحة. وجد نفسه عاطلاً بلا عمل لمجرد أنه رفض الوشاية. مطلوب منه أيضاً أن يرد خمسين ألف دولار، مقدم الأجر الذى أنفقه بالكامل، وإلا حجزوا على بيته.

تحولت حياته إلى كابوس، وحتى أصدقاؤه تخلوا عنه، وحين ضاقت الدنيا فى وجهه واضطر أن يعمل فى ورشة فإن المباحث الفيدرالية تعقبته. أمريكا تحولت إلى سجن كبير. حتى الهواء صار مسمماً. والأطفال يضحكون فى غير بهجة. والفتيات يرقصن وكأنهن مذبوحات من الألم. وبدعوى الوطنية سيطر الرعب على كل مكان! وكأنها ليست أمريكا، بلاد الحرية.

ثم ماذا حدث بعد ذلك؟ تبين فيما بعد أن معظم اتهامات جوزيف مكارثى كانت على غير أساس، ووجَّه مجلس الشيوخ اللوم إليه عام ١٩٥٤، ثم مات بعدها بثلاث سنوات. تنبه الناس فى النهاية أن الشيوعية إذا كانت تحدياً فليست الطريقة الصحيحة لمقاومتها هى القمع والرعب وتحويل الناس إلى وشاة.

والآن عزيزى القارئ، اليوم يتجه المجتمع المصرى إلى نوع من الوطنية الفاشية، فهل يجب أن نكرر أخطاء الآخرين كى نصل إلى النتيجة نفسها؟ فاللهَ اللهَ فى وطنكم. إن شاء الله لن تنحدر مصر إلى هذا الدرك، وسيبقى التنوع وحرية الرأى ونعمة الاختلاف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *