أيمن الصياد يكتب | بل «الوطن الذى نريد»

أيمن الصياد يكتب | بل «الوطن الذى نريد»

ايمن الصياد

فى عدد الأربعاء الماضى (٢٠ أغسطس ٢٠١٤) من جريدة الوطن كتب د. معتز بالله عبدالفتاح مقالا بعنوان «المصرى الذى نريد». وإذا كان مما تعلمنا أن «ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب»، فأحسب أن سؤالا آخر أخشى أن تغيب أهميته لأسباب شتى عن الخطاب المتواتر، ربما كان أولى بأن يأخذ حظه ابتداء من الاهتمام والانتباه.. والتنبيه: «الوطن الذى نريد».

فهرس

«جرافيتي» على جدار قاهري أيام يناير

نحسب هنا ابتداءً أن هدف الجميع واحد: «مصر جديدة» تأخذُ مكانها الذى تستحق فى عالم جديد. ونحسب أننا «واقعيًا» بصدد صياغة «عقد اجتماعى جديد» يحددُ العلاقة بين الدولة ومواطنيها، أو بالأحرى بصدد التذكير بمبادئ هذا العقد، سواء تلك التى عبرت عنها تعديلات دستورية حظت بموافقة كاسحة، أو تلك التى عبرت عنها بوضوح حركة الناس ومطالبهم فى يناير ٢٠١١، وكل ذلك أخذا فى الاعتبار ما نحن بصدده «واقعيًا أيضا» من مسافة بين ثقافة تقوم على «الضبط والربط والسرية والأوامر»، وتلك التى جوهرها «المشاركة والشفافية والمحاسبة». فضلا عن غياب، يبدو سيطول لمؤسسةٍ تشريعيةٍ منتخبة، تأخذ جديًا دورها الرقابى المطلوب.

«الوطن.. الذى نريد»

يبقى العنوان / السؤال مُهمًا إذا أخذنا فى الاعتبار أيضًا ما قد نراه «كاشفًا» لثقافة، يجرى الترويج لها أو محاولة بيعها للحاكمين والمحكومين. ولعلى لا أراها، مهما بدَّلت القبعات تختلف كثيرا عن فكرة راجت فى تراثنا محدِدَة لعلاقة الحاكم بالمحكومين «الرعية» ويجرى استدعاؤها بين الحين والآخر تحصينًا للحاكم؛ «بتكفير الخروج عليه»، قبل أن يصل الأمر فى النهاية إلى حد بناء جماعات تجد حمايتها فى حماية السلطة ذاتها. ومن ثم تعمل تدريجيا على تكريس ثقافة حامية لتلك السلطة، ليس فقط من النقد أو من الخروج عن أوامرها ونواهيها «وتوجيهاتها»، بل وأيضا من تحميلها «المسؤولية». أتذكرون حوار السادات الشهير مع النائب كمال أحمد (١٩٧٩)، وكيف تجاوز ما كان مع الطالبين عبدالمنعم أبو الفتوح وحمدين صباحى (١٩٧٧). ثم أتذكرون ما تناقله المثقفون عن ما جرى بين الراحل النبيل محمد السيد سعيد، وبين «الرئيس» مبارك (٢٠٠٥)؟ هى «السلطة» حين يضيق صدرها، وهى الثقافة «الحاكمة» حين لا ينتمى العقد الاجتماعى «الحاكم» إلى ما يعرفه عالم جديد، ومتطلبات الانتماء إلى عصر جديد. وأظن الأمر كله، مرة أخرى يستحق الاهتمام والمراجعة.

•••

عن المصريين، أو «المصرى الذى نريد» يدور الحوار، وربما تشير «إصبع المسؤولية» أيضا. والحقيقة أننا جميعا نعرف أن «فى التنوع ثراء». وأن من بين المصريين، على اختلاف أفكارهم وثقافاتهم ومعتقداتهم، من حقق نجاحات مشهود بها فى شتى أرجاء المعمورة. كما أنهم، رغم كل ما نتعالى به عليهم، ورغم كل ما تفسده فيهم السياسة والساسة، هم «أنفسهم» الذين أذهلوا العالم فى تلك الأيام من يناير ٢٠١١. أتذكرون ما قاله زعماء العالم عنهم والذى حرصنا «يوما» على تسجيله فى لافتات على الطريق إلى المطار؟

إذا كان ذلك كذلك، فماهى المشكلة إذن؟

يقول التاريخ إن المصريين الذين انكسروا فى يونيو ١٩٦٧ عندما اختلت العلاقة بين المؤسسات، هم أنفسهم الذين انتصروا فى أكتوبر بعد أن عادت الأمور إلى نصابها. وتقول التجربة المعاشة إن المصريين الذين تقوم على أكتافهم مؤسسات عربية أو خاصة (الإعلامية مثالا) قادمون أساسا من مؤسسات رسمية نعرف جميعا ما آلت إليه. لماذا؟ إنه «النظام» أو الـsystem كما تقول الإجابة المتفق عليها. وهو، بلغة العلوم السياسية إذا عدنا إلى موضوعنا: «العقد الاجتماعى» الحاكم للعلاقة بين المواطن والدولة. أو هو بمعنى آخر: «الوطن الذى نريد». وهو إن أردنا إيجازا: ذلك «الوطن» الذى نزل الناس فى ذلك اليوم من يناير ٢٠١١ يبحثون عنه «مستقبلا لأبنائهم» كما قال لى (أو بالأحرى، كما علمنى) أيامها مواطن بسيط لايعرف القراءة أو الكتابة.

وطنٌ وصفنا ملامحه هنا مرارا وتكرارا، ولكن واجب «أصحاب القلم» منا أمام «أصحاب الوطن» أن لا نمل من التكرار والتذكير .

وطنٌ قالوا لنا يومها، أنهم يحلمون بأن يكون وطنا للجميع، لا وطن حزب يقوم على شبكة مصالح، أو وطن جماعة مغلقة تتصور أنها وحدها «على الحق».

وطنٌ يحترم دستوره وجميع أبنائه، ويعدل بينهم، مهما اختلفت آراؤهم أو «معتقداتهم» أو حالتهم الاجتماعية أو الاقتصادية، ويعرف أن الفارق بين الديمقراطية والشمولية هو فى إدراك أن حكم الأغلبية غير مطلق، بل مقيدٌ بحقوق الآخرين.

وطنٌ يحكمه القانون، لا «التحريات الأمنية» التى قد تخطئ أو تصيب.

وطن لا مجال فيه لنظام يسمح أن يحدث فيه ما حدث لخالد سعيد أو سيد بلال الذى أُخذ يوما مظلوما بلحيته، (والأمثلة صارت كثيرة بحيث يتعذر أن تحصى أو تُعد). كما لا يسمح أيضا بثقافة مريضة تدفع هذا أو ذاك إلى أن يظن أن طريق الجنة يمر بتفجير يستهدف أبرياء مهما كان المبرر.

وطن لا يسمح بنظام يقوم على «توريث» فج للمناصب والنفوذ. وينتحر فيه شاب متفوق بعد أن فشل فى أن يأخذ حقه فى أن يكون دبلوماسيا، لا لسبب إلا لأنه ابن لمزارع بسيط فى دولة أنشأها ابن لساعى بريد اسمه جمال عبدالناصر.

وطنٌ لا يسمح بنظام يحرم شابا من وظيفة يستحقها «دون مسوغ قانونى»، أو لأنه قبطي أو شيعي، أولمجرد أن تقارير «أمنية» أشارت إلى أنه سلفى أو شيوعى أو بهائى أو منتم للإخوان المسلمين.

وطنٌ لا مجال فيه لنظام يستخدم الدين «استقواءً» فى مواجهة خصومه، كما لا مجال فيه لاستحضار الدين «الذى هو مقدس» إلى غير ساحاته؛ مزايدة أو تحريضًا بالزعم مثلا بأن تصويتا بعينه هو الطريق إلى الجنة. أو بوصف «خلاف سياسى» بأنه معركة بين الدين «وأعدائه».

وطنٌ يعيش تحديات عصره لا معارك ماض يستحضر أجواءه متاجرون أو مغامرون أو غافلون عن تحديات المستقبل الحقيقية.

وطنٌ يدرك القائمون عليه أن إصلاح المؤسسات «أمنية أو قضائية أو إعلامية» مطلوب وضرورى، ولكنه لا يعنى أبدا هدمها أو تغيير ولاءاتها. كما لا يعنى بالتأكيد استهداف العاملين فيها (الذين هم مصريون فى نهاية المطاف) بالسلاح أو التفجيرات.

وطنُ ــ نكرر ــ لا يسمح بنظام يذكرنا بمقولة السادات الشهيرة «كله بالقانون» فنجد فيه سلطة تجيد استخدام القانون للعصف بخصومها. فتكون النتيجة ليس فقط الإساءة للقانون ورجاله، بل العصف بفكرة «الدولة» ذاتها، والتى لن تكون «مستقرة» إلا إذا شعر الناس بأن هناك قاضيا وقانونا يطمئنون للاحتكام إليه. وإلا لجأ كل منهم لمحاولة أن يأخذ حقه «أو ما يتصور أنه حقه» بيديه.

وطن يعرف قيمة أن يكون «القضاء مستقلا»، فلا يسمح بنظام تتحكم فيه السلطة التنفيذية بالقضاء؛ إن بسيف المعز أو بذهبه. أو أن يحُال الناسُ فيه إلى غير قاضيهم الطبيعى. أو أن يُحال الإخوان مثلا، كما فعل مبارك إلى المحاكم العسكرية «لمجرد أنهم إخوان». أو أن يهدد الرئيس «الإخوانى» معارضيه فى خطاب علنى بالإحالة إلى المحاكم العسكرية بدعوى أنه «القائد الأعلى للقوات المسلحة».

وطنٌ يشفى من هوس «المكارثية»، فلا يقع فى ما وقع فيه «بريمر» من خطأ فى العراق، بل يدرك ما تقرره كل الشرائع والدساتير من أن «العقوبة شخصية»، فيعرف فيه الناس الفصل بين «التنظيم» كشخصية اعتبارية، سواء كان اسم هذا التنظيم «الإخوان المسلمين» أو «الحزب الوطنى» وبين من انتسب يوما، بشكل أو بآخر إلى هذا التنظيم من «مواطنين» لهم حق المواطنة الكاملة والمساواة أمام القانون. يدفعون كغيرهم ثمن جرائمهم «حال ارتكابها»، لا جرائم تنظيمهم أو حزبهم أو جماعتهم.

وطنٌ يجيد القائمون عليه قراءة تجارب الآخرين التى تقول بأن هناك «شروطا» لإنجاح مراحل التحول الكبرى فيما بعد الثورات. وهى الشروط أو المتطلبات الخمسة التى اسمتها كتب السياسة بتدابير «العدالة الانتقالية» Transitional Justice والتى أشرنا إليها هنا تفصيلا غير مرة، والتى تهدف فى نهاية المطاف إلى انتقال آمن «وسلمى» لمجتمع ديمقراطى حقيقى، يشعر فيه الناس «جميعهم» بالعدالة والمساواة. ولا تسمح قواعده بتكرار الانتهاكات التى جرت فى الماضى وثار بسببها الناس.

وطنٌ يدرك مسؤولوه أن «لا دولة قوية دون معارضة قوية»، وأن ما جرى لـ٢٥ يناير من انتكاسة، لم يكن إلا بسبب «تجريف للحياة السياسية» (والتعبير للأستاذ هيكل) قام به بدأب نظام مبارك بالقضاء الممنهج على المعارضة، عنتا وقمعا وتدجينا.

وطنٌ يعيش حاضره، ويدرك أن الزمان لم يعد زمان «الزعيم الملهم»، أو ذلك الذى يعرف صحيح الدين، فيظن أنه صاحب الكلمة المطلقة فى شئون الدنيا، وأحوال «الرعية».

وطنٌ يقرأ الغافلون فيه جيدا معنى التعبير العفوى لتغريدة كتبها شاب يوما على موقع التواصل الاجتماعى تويتر: «الله.. الوطن.. الهجرة»، كما التعليقات عليها.

•••

هذه هى ملامح الوطن «الذى نريد» والتى أخشى أن تضيع وسط ضجيج أولئك الزاعقين الماكرين، أو غفلة أولئك المشفقين بإخلاص على «الوطن»، المطمئنين لثقافة الصوت الواحد، غير المدركين لحقائق عصر باتت تقضى بأن «لا دولة قوية بدون معارضة قوية».

هذه هى ملامح «الوطن الذى نريد» والذى أخشى أن يظل أسير «رد الفعل» من هذا وذاك، كما أخشى أن يظل أسير الماضى؛ استدعاء ديماجوجيا، أو انتقاما ثأريا فتتوه منه خرائط المستقبل.

هذه هى ملامح الوطن «الذى نريد» والتى أخشى أن ينساها أولئك المستدعون/ المطمئنون لمقولات الاستبداد القديمة، سواء تدثرت برداء دينى أو وطنى، أو اختفت مكرا خلف صفوف هذا أو ذاك. لا فارق. فالاستبداد هو الاستبداد، سواء وصفه الكواكبى أو Hobbes، وسواء تبناه طاغيةٌ، أو معتقدٌ بأن فيه صالح البلاد والعباد. فكما أن المفسدين فى الأرض يظنون أن ما يفعلونه حسنا، قائلين «إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ»، كذلك تعلمنا أن الطريق إلى جهنم مفروش أحيانا بالنوايا الطيبة.

أنار الله بصيرتنا، ووقانا شر النهايات.

•••

وبعد..

فبعض من هذا المقال كان قد كتبته نصا فى هذا المكان يوما محاولا رسم ملامح «وطن» بحث عنه «المصريون» عندما نزلوا إلى الشوارع فى ٢٥ يناير ٢٠١١ .. ولعلهم مازالوا يبحثون.

أتعرفون قيمة لحظة ١١ فبراير العبقرية التى أضعناها؟ أن كل من فى الميدان يومها كان يشعر بأن هذا «وطنه» الذى عليه أن يعمل من أجله.

أما زالت هذه اللحظة تعيشُ داخل كل منا؟ فى إجابة هذا السؤال كثير من ملامح الأيام القادمة، وكثير من الإجابة على السؤال الذى قرأناه في مقال يتساءل عن: «المصرى الذى نريد».

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المصدر:الشروق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *