الحقيقة الغائبة فى استاد القاهرة

كانت الأزمة الاقتصادية ضاغطة على أعصاب المجلس العسكرى، عجز الموازنة يتفاقم وينذر بانهيارات، أزمات الوقود تتصاعد وأرتال السيارات تنتظر دورها أمام المحطات.

وزارة البترول لم يكن لديها فائض إنتاج يغطى الاحتياجات ووزارة المالية لم يكن لديها فائض مال يسمح بالإفراج عن شحنات وقود وصلت إلى الموانئ المصرية.

ذهب وزير التضامن الاجتماعى الدكتور «جودة عبدالخالق» إلى وزارة الدفاع طالبا لقاء المشير «حسين طنطاوى» على وجه العجل. سأل المشير مساعديه: «هل هناك موعد مسبق؟».. كانت الإجابة:«لا». عندما تقابلا أخذ الوزير يعرض حقيقة الأزمة وخطورة تداعياتها. جرت اتصالات، فى وجود الدكتور «جودة»، بوزيرى البترول والمالية أسفرت عن ضخ مالى يكفى للإفراج عن شحنات الوقود من موازنة الجيش المثيرة للجدل. «العسكرى» ضخ تاليا أموالا أخرى لأغراض مماثلة. بلغت القيمة الإجمالية نحو (٢) مليار دولار، ربما لحقها مليار آخر فى بدايات عهد الرئيس «محمد مرسى» قبل إنهاء ازدواج السلطة.

«العسكرى» كان يعتقد بعد تسليم السلطة للرئيس المنتخب أن نفوذه فى معادلات الحكم باق لاعتبارين. أولهما، السلاح وهيبته.. وثانيهما، القدرة على ضخ مال فى شرايين الاقتصاد المنهك. الاعتبار الأول، بددته أحوال التحلل داخله.. والاعتبار الثانى، لم يكن له وزن عند حسم ازدواج السلطة. مشكلة الرئيس «مرسى»، والأزمة الاقتصادية تتصاعد، أنه قد يلجأ للجيش وموازنته مرة بعد أخرى، وهذه حلول أقرب إلى المسكنات، تسحب من رصيد القوات المسلحة واحتياجاتها لأداء أدوارها فى حفظ الأمن القومى دون أن تضيف لرصيد الدولة وقدرتها على تنمية مواردها.

الأزمة الاقتصادية ومكامن الخطر فيها استهلكت أعصاب المشير ولخصت عبارة واحدة الحالة التى كان عليها: «متى نتخلص من هذه المشكلات التى حلت فوق رؤوسنا؟». عندما دعاه جنرال مقرب، وكانت ذكرى يناير تقترب، أن يصدر قرارا برفع الحد الأدنى للأجور إلى (١٢٠٠) جنيه على ماقضت المحكمة الإدارية فى عهد «مبارك».. رد بسخط من ضاقت الحلول أمامه: «أجيب منين ؟».

كانت أمام المشير ثلاثة ملفات اقتصادية ملغومة ورثها بعده الرئيس «مرسى».. كلاهما تعامل معها بطريقة تتسق مع شخصيته وطريقة تفكيره.

الملف الأول، رفع الدعم عن السلع الرئيسية والطاقة فى صدارتها. المشير لم يكن مستعدا لاستدعاء الملف أو الحديث فيه وقرر ترحيله لمن بعده.. الرئيس ليس بوسعه أن يرحل الملف هو الآخر. تتضارب الاعتبارات أمامه، حكومته تحذر من أزمة كبرى فى حال «عدم إعادة هيكلة منظومة دعم المواد البترولية» التى قد تصل هذا العام إلى (١٢٠) مليار جنيه، وحسابات السياسة والأمن تحذر بدورها من النتائج الكارثية على صورة الرئيس وحظوظ جماعته فى الانتخابات التشريعية المقبلة إذا ما أقدم على هذه الخطوة التى سوف يلحقها ارتفاع كبير فى الأسعار ومعدلات أكبر فى التضخم.

هو هنا رجل تحاصره أرقام الأزمة وحقائق المجتمع.. دواعى التصرف وكمائن الخطر.

فى خطابه الاحتفالى فى استاد القاهرة بدا أنه يتجه إلى رفع تدريجى للدعم عن الوقود متبنيا مصطلحات مبارك المراوغة عن «وصول الدعم لمستحقيه».

الملف الثانى، قروض صندوق النقد الدولى. المشير بدا حساسا، تجربة صدامه مع حكومة «أحمد نظيف» وسياساتها فى الاستثمار دعته للابتعاد تماما عن هذا الملف وتركه لمن بعده.. والرئيس وجد نفسه فى وضع متناقض، فهو يتحدث عن قدرات اقتصادية كامنة فى مصر و«خير بلا حد» ثم يذهب فى أيامه الأولى إلى صندوق النقد الدولى واشتراطاته التى تشمل زيادة الإيرادات الضريبية والتخفف من دعم السلع الرئيسية. لم يكن خطابه مقنعا، ولا نفيه لارتباط هذا الملف باشتراطات الصندوق صحيحا، ولا كان الحديث عن «الربا» فى محله.

بدا مرة أخرى رجلا تناقضت وعوده مع أفعاله.

الملف الثالث، التصالح مع رجال الأعمال المتهمين فى قضايا فساد. المشير أحجم عن الدخول فيه خشية اتهامه بأنه جزء من شبكة مصالح النظام السابق التى توصف بالفلول.

الحساسية السياسية ذاتها انتقلت إلى رئيس حكومته الدكتور «كمال الجنزورى»: «ليتصالح من يأتى بعدى.. أما أنا فلا». كان وزير المالية موافقا على الفكرة بحسبان أنها تضخ مالا تحتاجه الموازنة العامة. المشكلة أكثر تعقيدا فى حالة «مرسى»، فمثل هذا التصالح، والفكرة مطروحة عليه، يفضى إلى تساؤلات حول ما إذا كان ما يجرى زواجا جديدا بين السلطة والمال بوجوه أخرى.

الملفات الثلاثة داهمت «مرسى» فى المائة يوم الأولى، وهى أولى بالحكم عليه من ملفات خمسة أخرى جعلها على رأس أولوياته: النظافة والخبز والوقود والمرور والأمن.

مجموعة الملفات الأولى تتحدد على أساسها التوجهات الرئيسية فى الحكم وشخصية الرئيس الجديد، بينما مجموعة الملفات الثانية فإنها تمس ضرورات مباشرة ولا تصلح بذاتها أن تؤثر على توجهات أو ترسم سياسات مختلفة. المثير فى مجموعة الملفات الثانية أن «مرسى» أخذ يمنح نفسه درجات نجاح متفاوتة بنسب مئوية لا تستند إلى إحصاءات رسمية، بينما الحقائق جلية أمام كل مواطن، وهو ما يسحب من رصيد صدقيته. وقد تبارى عدد من المتحدثين الرسميين باسم «الحرية والعدالة» لترميم صورة الرئيس بعد خطاب استاد القاهرة التى تضررت بصورة فادحة.

إخفاق «مرسى» فى تحقيق وعود المائة يوم الأولى يعود أساسا إلى نظرة مبسطة للتعقيدات التى تنطوى عليها الملفات الخمسة، فكل ملف مرتبط بغيره، قد يمكن الحديث عن تخفيض مستويات الأزمة، أو تحسين نسبى فى الأداء كما حدث فعلا فى الملف الأمنى، لكن الانتقال من حال إلى حال لا يمكن أن يحدث بضغطة زر، وذلك حديث مختلف يستدعى سياسة أخرى غير تلك التى اتبعها النظام السابق وأفضت إلى الثورة عليه.

لا قطيعة مع النظام السابق. النوايا تختلف والرجال مختلفون، ولكن جوهر السياسات واحد. هناك محاولة لاصطناع صورة فرعون جديد، والنيل من منتقديه، إلى حد اعتبار الجدل حول برنامجه، وهو مشروع وطبيعى، حالة «تربص وتنكر وتشكيك»، بكلمات وزير التنمية المحلية. بل إن وزير الإعلام الجديد أصدر تعليمات شفهية لقيادات التليفزيون بإبراز زيارات الرئيس وإنجازات المائة يوم قبل أى خبر آخر، أيا كانت قيمة الخبر أو أهميته، ومنع التعرض لرموز الجماعة وتاريخها.

«مرسى» نفسه بدا ضيق الصدر بمنتقديه، ويتحدث أكثر من أى رئيس آخر فى العالم.

للكلام ضرورات تقتضيه ورسائل تنطوى عليه، وهناك فارق ضرورى بين الرئيس والواعظ، الناس تريده «صاحب قرارات لا صاحب كرامات».

حقائق الموقف الاقتصادى وضرورات التصرف فيه تستدعى مكاشفة المجتمع والدخول فى حوار جدى يضع فى أولوياته قضية العدالة الاجتماعية. الحقائق هنا تتصادم، فالاقتصاد يترنح : حجم الدين الداخلى (١٫٢) تريليون جنيه، عجز الموازنة نحو (١٣٥) مليار جنيه، الطاقة الإنتاجية لم تعد إلى سابق عهدها، والسياحة فى حالة شلل نصفى، بما يطرح فكرة اعتماد سياسة تقشفية وإعادة البناء من جديد. لكنه على الجانب الآخر من الحقائق المتصادمة : لا أحد من الذين يشاركون فى الاضرابات الاجتماعية التى تشمل فئات مختلفة فى المجتمع مستعد أن يتقشف لصالح الفئات الأكثر غنا وثراء، أو أن يستبدل نخبة حكم تزاوج بين السلطة ورأس المال بنخبة حكم أخرى تجرى على النهج ذاته.

الرئيس لا يحكمه مشروع جديد ولا يقوده تصور مختلف. أين مشروع النهضة إذن؟.. بحسب رجل أعمال مقرب من «خيرت الشاطر»، نشاطه فى سويسرا، فإن مشروع النهضة عبارة عن عدد من المشروعات العملاقة، على النمط الذى كان يتبناه رئيس الوزراء السابق «كمال الجنزورى»، تكلفتها نحو (٢٠٠) مليار دولار. الرقم فوق طاقة الاقتصاد المصرى المنهك واحتياجاته الملحة.

جرى التداول بخصوصه مع جهات دولية ذات صلة بالملف ورفضته تماما. ربما يفسر ذلك تراجع «خيرت الشاطر» عن تبنى المشروع والقول بأن الإعلام بالغ فيه.

من المشروعات التى يتضمنها «النهضة» إنشاء منطقة حرة فى منطقة رفح المصرية، وقد لاقت المصير ذاته باعتراضات سيادية وإقليمية ودولية.

الدعايات سادت والحقائق غابت فى استعراض الرئيس باستاد القاهرة.
المصدر: الشروق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *