باسم يوسف يكتب| هيستريا ليلة كريسماس

باسم-يوسف

«يا خونة، كلكم خونة»

«خونة مين يا عبيد»

«عبيد؟ انتو اللى عبيد، امتى البلد تنضف بقى»

«لما تموتوا انتو وأمثالكم يا ولاد ال….».

لم يكمل كلمته فقد تم إغلاق فمه بقذيقة مكونة من طبق طائر عليه بقايا قطعة لذيذة من كيكة البلاك فورست.

تلى ذلك ثانيتان بالضبط من الصمت الرهيب، ثم…. صراخ وعويل وأيادٍ تمتد لتفتك بأهدافها.

ستوب.

يتوقف المشهد تماما مثلما يحدث فى السينما. كأن أحدهم ضغط زر التوقف. تدور الكاميرا لنرى معها الوجوه الغاضبة والعيون الجاحظة ووجه أحد الأشخاص ملطخا بكيكة البلاك فورست. تستمر الكاميرا فى الدوران مثل فيلم «ماتريكس» ونجد كل شىء، كل شخص متوقفا حتى تصل الكاميرا إلى وجه أستاذ سامى وزوجته منال.

الزوجان يشاهدان ما يحدث فى ذهول. هما ليسا جزءا من هذه المشاجرة الهيستيرية ولكنهما يقفان فى منتصف الصالة بالظبط وفى هذه اللحظة يسأل سامى نفسه «كيف وجدت نفسى وسط هذا العك؟»

ستوب.

يضغط أحدهم على زر الرجوع. تتراجع المشاهد بسرعة فائقة فى الاتجاه العكسى. يعود شريط الفيلم من أوله.

مش من أوله قوى.

يعود الشريط لنشاهد ما جرى منذ ثلاث ساعات بالضبط.

مشهد ليل خارجى.

ليلة الكريسماس.

الساعة التاسعة مساء

سامى يتحرك بسيارته من أمام منزله مع منال متجهين إلى مكان الحفلة

«أنا قلتلك ما بحبش الحفلات دي» قالها سامى وهو يركن سيارته أمام الفيللا الفخمة.

سامى مالوش فى الجو ده. كان يتمنى لو قضى الليلة مثل كل سنة أمام التليفزيون وخاصة أن الليلة كان سيعرض فيلم أحمد حلمى الجديد.

أصرت منال هذه السنة أن يحتفلا بالكريسماس مثل «مخاليق ربنا». ولاحظت أن هذه السنة بالذات بالغ الناس بالاحتفال بكل مناسبة ممكنة. فى أى فرصة لأجازة رسمية أو دينية أو حتى الهالوين، كانت دائرتها تصر على الاحتفال بها بشكل أكثر من المعتاد. يبدو أنها وسيلة لتفريغ حالة الغضب والاحباط السياسى الموجودة فى البلد. لا يهم إن كنت مسلما أو مسيحيا لتحتفل بأى من المناسبات الدينية. المهم أن نخرج من «الهم» ده.

دخل الزوجان إلى الفيللا. مشاهد احتفال معتادة من زينة وأضواء وشجرة وهدايا ذات أغلفة براقة.

لاحظ سامى تو دخوله أن الجو مشحون قليلا. بنظرة واحدة حوله أدرك السبب. ثم همس سامى فى أذن زوجته: «هو جوز صاحبتك ده غبى ولا حاجة؟»

زوج صديقة منال، صاحب الحفلة، يبدو أنه حين قام بدعوة ضيوفه لم يدرك أنه يحول حفلته لقنبلة موقوتة.

لم يتوقف صاحب الحفلة كثيرا عند الاسماء التى كان يقوم بدعوتها هو وزوجته. فالمهم هو أن «يتمنظروا» على أصحابهم على الفيس بوك حين ينشروا صور الضيوف النخبة من رجال الاعلام والصحفيين والفنانين والكتاب.

لاحقا ستنفجر هذه القنبلة فى وجه الجميع.

«البرادعى وعلى من شاكلته طابور خامس مافيش كلام».

«البرادعى هو انضف واحد فى البلد دى، قدامكم كتير عشان تفهموه»

كانت هذه بداية حوار سمعه سامى وهو يمشى بهدوء متجها إلى مكان المشروبات. لم يحتج لأن يقف ويسمع الباقى، يعرف جيدا كيف تنتهى هذه النقاشات.

«بركة إنهم أخيرا اتصنفوا جماعة إرهابية»

«يعنى حتلم مليون واحد فى السجن؟»

«يعنى نسكت وهما بيقتلوا فينا؟»

«بس مش ده الحل»

«ايه هو الحل طيب»

«ماكنش المفروض نفض اعتصام رابعة»

«ماتكلمنيش فى اللى فات، كلمنى فى دلوقتى. جماعة مش قابلين بأى حاجة الا رجوع مرسى ومش هاممهم ضحايا»

«انت اللى دفعتهم لكده ما ينفعش تفضل قاعد فى فقاعتك وتفتكر ان كل حاجة تمام»

«ناس بينادوا بانشقاق الجيش وعايزينها سوريا ولا ليبيا ولو فيه مكان حيعملوا فينا اوسخ من كده. يا عم انا مبسوط فى فقاعتى، خليك انت فى رومانسيتك اللى حتودينا فى داهية، احنا عايزين حلول مش كلام مثالى»

يعرف سامى أين تتجه هذه المناقشة أيضا. يضغط بقوة على يد زوجته ويهمس لها بحسم.

«انا آخر مرة اسمع كلامك. دى شكلها حفلة نكد».

تحرك سامى وزوجته لمكان آخر فى الصالة عله يكون أكثر هدوءا ليستطيع الاستمتاع بطعامه. على الاقل الاكل لطيف. كيكة البلاك فورست التى يعشقها متوصى عليها صح.

فى كل بقعة هناك مناقشة أكثر سخونة من قبلها ولكنها لا تتعدى محيط دائرة من يشاركون فى الحديث.

لكن يبدو ان هذا الهدوء المزيف لن يستمر طويلا. فهناك رجال أعمال مرتبطون بنظام مبارك. وهناك فنانون وصحفيون يجاهرون بعداوتهم «للنشتاء» و«الحكوكيين» كما يسمونهم. وهناك مجموعة من «عاصرى الليمون» وهناك صحفيون ممن يتم اتهامهم علنا بأنهم طابور خامس من قبل اعلاميين وصحفيين يقفون على بعد أمتار قليلة فى نفس الصالة.

كلها مسألة وقت.

تعلو الاصوات من بعض دوائر النقاش.

«يا عم شكلى إخوان ايه بس؟ أنت حتستعبط يا خالد؟ إشحال احنا سكرانين مع بعض السنة اللى فاتت فى نفس حفلة الكريسماس»

«مانتو أصلكم الواحد مش عارفلكم دخلة. انا أعرف واحد فى الشغل معايا بقاله عشر سنين وماعرفتش الا السنة دى انه إخوان».

«كل ده عشان مش عايز السيسى يترشح؟»

«مش وقته الكلام ده، البلد فى حالة حرب والناس بتموت. الجيش خط أحمر، مش وقته»

«يا عم انا جيت جنب الجيش؟ والا قلتلك ان اللى بيحصل فى سينا صح؟ انا بانتقد موقف سياسى»

«نقضى على الخونة الاول والبلد تستقر وبعدين انتقد زى مانت عايز».

«وده حيحصل امتى ان شاء الله؟

يأتى صوت نسائى من آخر القاعة:

«مين الحيوان اللى جاب سيرة السيسي»

«آه أجيب سيرته، فيها ايه يعنى، هو ربنا؟»

فى هذه اللحظة التحمت الحلقات وتعالت الاصوات، وخرجت الكلمات من فم أصحابها مثل القذائف من كل مكان فى الصالة.

«والله ماكنش ينفع معاكم الا العادلى».

«ما البلد ما رحتش فى داهية الا من أمثالكم يا بتوع مبارك».

«يا عم ما يصحش ده احنا عشرة عمر».

«بلا عشرة بلا قرف، انا بكرة حاكلم رقم مكافحة الارهاب وابلغ عنك، اصل لو انت مش اخوان فانت أكيد موالس معاهم».

«ياللا يا خاين»

«ماهو العبيد اللى زيكم ما ينفعش يعيشوا فى حرية».

وهنا طارت كيكة البلاك فورست.

فى أثناء طيرانها وقبل وصولها إلى الهدف تحول كل شىء إلى التصوير البطىء، مما أتاح لسامى أن يدور ببصره فى جميع أركان الفيللا متفحصا الوجوه الغاضبة.

لم يعد طرفا النزاع هم النخب والاعلاميون والفنانون والصحفيون. كان الاعداء أقارب وأصدقاء عرفهم منذ سنوات بعيدة. كان هناك صراع متبادل بين زوج عصر على نفسه لمونة وزوجته من حزب الكنبة، بين أب يقدس الجيش وابن يجاهر بعدائه لدولة العواجيز.

الغريب أن الصحفيين والاعلاميين والكتاب والفنانين على اختلاف أهوائهم و برغم مشاركتهم فى الحديث والجدال من أوله، لم يكونوا فى وسط الشجار. لاحظ سامى أن كل هؤلاء قد اختفوا فجأة من الحفلة. كأنهم لم يكونوا هنا من الاصل. وجد سامى أن الاهل والاصدقاء هم من ظلوا فى وسط «العركة»

علاقات أسرية وصداقات تنهار أمامه فى ثوان بسبب نقاشات سياسية ولا تودى ولا تجيب.

كم من حالة طلاق سمع عنها، كم مرة سمع أن فلانا لا يكلم أباه،أو أم مقاطعة ابنها. كم من بيت انهار بسبب نقاشات مثل هذه.

زر الاسراع للامام يُضغط لنشاهد الخناقة بالتصوير السريع.

ستوب.

مشهد ليل خارجى. فى سيارة سامى أمام الفيللا.

«ايه سرحان فى ايه؟ ياللا، سوق، حنتأخر على الحفلة «قالتها زوجته وهى تحاول اخراجه من حالة التوهان التى غرق فيها.

يفيق سامى من سرحانه. يكتشف انه لم يتحرك من أمام بيته كل هذا الوقت. ينظر إلى ساعته يجدها التاسعة وخمس دقائق.

«الحفلة ابتدت بقالها ساعتين، مايصحش، سوزى عمالة تكلمنى وتقولى احنا فين»

ينظر سامى إلى منال. عقله مازال تائها فى مكان آخر.

«ياللا، ده فيه ناس مهمة ومشهورة هناك، عايزة الحق اتصور معاهم».

هل جرى كل ذلك فى عقله؟

نظر لزوجته وقال لها جملة واحدة:

«انا مش رايح».

«ايه؟ انت بتقول ايه؟»

«انا حافضل فى البيت اتفرج على فيلم أحمد حلمى».

«ايه الكلام الفارغ ده، انت ازاى….».

«كلمة كمان وحتكونى طالق».

ترجل سامى من سيارته بكل هدوء متجها إلى بوابة منزله تاركا وراءه منال فى السيارة. كانت منال مصدومة لا تعرف ماذا حل بزوجها، ولكنها أيضا لم تعرف معنى الجملة التى كان يرددها سامى وهو يتركها فى السيارة.

«الناس اتجننت. بلا سياسة بلا قرف. الناس اتجننت»

ميرى كريسماس أن أ هابى نيو يير يا جماعة.

(مستوحاة من أحداث حقيقية حدثت فى ليلة الكريسماس، آه والنعمة).

المصدر جريدة الشروق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *