بلال فضل يكتب | محاكمة الضحايا

قبل أن تدخل إلى المقال، هل تسمح لى أن أرجوك بأن تترك أفكارك المسبقة خارجه حتى لو أحببت أن تحتفظ بالحذاء؟.

ثم دعنى أسألك وأسأل نفسى معك: نحن الآن نركب سويا سيارة بيجو سبعة راكب يقودها سائق أرعن إما أنه «مونون حبتين» أو أنه غير كفء على الإطلاق أو أنه وهذا الأغلب يجمع بين الونونة وإنعدام الكفاءة،والركاب هربوا من الرعب الذى خلقته قيادته الرديئة فى نفوسهم ولكن كل بطريقته، هذا أخرج مصحفا من جيبه وبدأ يقرأ بتركيز، وتلك أخرجت الموبايل وبدأت تلعب فيه، وتلك إحتضنت طفلها وسلمت أمرها لله، وهذا راح فى نوم عميق، وذلك إنشغل بالنظر من الشباك وهو يبسمل ويحوقل، أنا وأنت نجلس مزنوقين فى الكرسى الخلفى الحقير، فى البدء تبادلنا النظرات الغاضبة وبدا أننا مستاءون جدا من تلك القيادة الرديئة ونفكر فى الإعتراض عليها، لكن السائق جاءه إتصال من زميل يحذره من الرادار أو من كمين يعرف الجميع مكانه على الطريق، فدوّى صوته المزعج فى فضاء العربية منطلقا بالشتائم واللعنات وقلة الأدب، عدنا ثانية لنتبادل النظرات القلقة هذه المرة، وقرأ كل منا أفكار الآخر «ده باين عليه راجل قليل الأدب وشرانى وبما إنه ضارب حاجة.. فأكيد مش هنسلم من لسانه.. مش طالبة الواحد يتهزأ ويسمع له كلمتين.. أنا عارف هيقول إيه.. هو أنا باسوق كده عشان أمى.. مش عايزين توصلوا وتلحقوا أشغالكو.. وساعتها مافيش حد من الركاب هيفتح بقه ويوقف معانا.. وساعتها مش بعيد يعمل علينا دكر وينزلنا فى الطريق.. حصلت مع واحد صاحبى قبل كده.. نعمل إيه طيب.. نخليها على الله وربنا يسترها».

السؤال بقى: بِعد الشر لو عملت العربية بنا حادثة من تلك الحوادث المريعة التى تقع كل ساعة فى طرق مصر، ألسنا نتحمل جزءا من المسئولية عما حدث؟، لو كنا بكل مافينا من قوة تكاتفنا ورفضنا تلك القيادة الرديئة وأجبرنا السائق على أن يلم نفسه ممارسين حقوق دافعى الأجرة فى قيادة آمنة، إلى أى حد كنا سنقلل من فرص «أن تعمل بنا العربية حادثة»؟. آه، هل أخذت بالك أساسا من التعبير الذى نقوله كمصريين فى حالات كهذه «العربية عملت بيهم حادثة»، كعادتنا نلقى المسئولية على جماد العربية، لا على قادتها المتهورين أو عديمى الكفاءة، أو على ركابها الذين سابوا له الحبل على الغارب، أو حتى على أجهزة العربية التى أغفلنا عدم صيانتها، أو على الطرق الرديئة الخالية من الإضاءة والمليئة بمفاجآت لا ينجيك منها إلا الله، أما نحن فلسنا مقصرين ولا مهملين ولا مسئولين عما «يتعمل بينا» من فساد وظلم ونهب وتجهيل وإفقار. لأ، العربية هى التى عملت بينا الحادثة.

إذا كانت سيرة حوادث العربيات المقبضة قد أغمتك على الصبح، فدعنى أنتقل بك إلى سيرة أكثر غما، وتخيل معى أننا نعمل سويا فى هيئة أو شركة أو مصلحة، ونركب سويا فى أتوبيس الشركة كل يوم، عندما يقف أحد الموظفين الكبار من زملائنا ليتحدث مع السائق ببذاءة وغلظة ويمارس عليه الفرعنة التى بتنا نمارسها جميعا على بعضنا، من أول بائع السندوتشات فى مطعم الفول الذى يكاد يفتك بك بنظراته وهو يأخذ منك بون السندوتشات، وحتى بائع الوطن الذى يستغرب لأنك لازلت قادرا على أن تقول «أى بيوجع»، للأسف لن يقف أحدنا ليقول «عيب مايصحش كده.. إزاى تكلمه بالطريقة دي»، لن نناصر السائق ضد الموظف الكبير الذى يمكن أن يحطنا فى دماغه، سنجلس لنستمع إلى السخريات القاسية التى تنهال على السائق، وسننظر إلى زملائنا فى الأتوبيس، هذا يقرأ فى المصحف وذلك يلعب فى الموبايل وذلك ينظر من الشباك وتلك راحت فى النوم، وسنكتفى أنا وأنت كعادتنا بتبادل نظرات الإستياء، ويقرأ كل منا أفكار الآخر «وأنا إيه اللى يدخلنى ياعم مابين الناس دى.. هاخد لى أنا كمان كلمتين.. خلينى ساكت.. يصطفوا مع بعض.. المهم نوصل فى معادنا قبل ما نتأخر على الساعة.. عايزين نلحق الغدا من غير مشاكل.. وبعدين هو السواق لو كان عنده كرامة ماكانش يسيبه يكلمه كده.. حاجة تقرف.. نعمل إيه طيب.. نخليها على الله وربنا يسترها»، ثم نفيق جميعا على الواقعة وهى تقع على رؤوسنا جميعا.

سأقولها معك: اللهم الطف بنا فيما جرت به المقادير، لكننى سأذكرك بالحقيقة المرة: للأسف أنا وأنت كشأن كل المصريين نتكلم فى الدين طول الوقت، نحب كثيرا الأحاديث التى تتكلم عن الحجاب والأذكار وموجبات الكفر وتحريم الغناء وعذاب القبر، لكننا لا نفضل الآيات والأحاديث التى تتحدث مثلا عن إعمال العقل وطلب العلم وفضيلة الحرية أو عن الناس الذين إذا لم يأخذوا على يد الظالم أوشك الله أن يعمهم بعقاب من عنده، ولذلك نحن نصمت دائما على كل مايحدث فى عربية الوطن التى نركبها من أخطاء سواء كانت من السائق أو من الركاب الأعلى صوتا، كل ذلك على أمل أن نصل فى موعدنا، قائلين «هنعمل إيه طيب.. نخليها على الله وربنا يسترها.. المهم نوصل»، وللأسف فى النهاية لا نصل أبدا.

(نشرت هذه السطور من قبل فى عمود اصطباحة بالمصرى اليوم بتاريخ 17 يوليو 2010 ولعلك تتفق معى فى أنها لا تزال صالحة للنشر)

المصدر: الشروق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *