علاء الأسواني يكتب| الحقائق القديمة تصنع المستقبل..

علاء

كان مصطفى المغنى قد جاوز الأربعين وإن كان يتمسك بمظهر الشباب. كان يتردد علينا أنا وأصدقائى فى أحد مقاهى وسط القاهرة، يحمل عوداً لا يفارقه أبداً، وما إن يسأله أحد عنه حتى يخبره بأنه موظف فى وزارة التموين، لكنه فى نفس الوقت مطرب أشاد بنبوغه كبار الملحنين فى مصر، على أن المطربين المشهورين يخافون من موهبته ويتآمرون باستمرار للقضاء عليها. عشرات الوقائع يحكيها مصطفى ليثبت لنا أنه ضحية لمؤامرات المطربين الحاقدين على نبوغه الفنى. الغريب أننا لما استمعنا إلى غناء مصطفى وجدنا صوته عادياً جداً، بل إنه كثيراً ما يتحشرج أثناء الغناء وينقطع نَفَسه من أثر إسرافه فى التدخين. تحمس أحد الأصدقاء واستعمل علاقاته وحصل لمصطفى المغنى على فرصة عمره. اتفق على أن يقدم مصطفى فقرة غنائية فى حفل تنقله الإذاعة على الهواء. طار مصطفى فرحاً وشكر الصديق بحرارة وراح يوماً بعد يوم يطلعنا على تفاصيل استعداده للفقرة الغنائية التى سيقدمها.

ليلة الحفل جلسنا جميعا بجوار الراديو نترقب فقرة مصطفى، لكن الحفل بدأ وانتهى بغير أن يغنى مصطفى. فى اليوم التالى اتصلنا بمصطفى فلم يرد واتصلنا بصديقنا الذى توسط له فأخبرنا بالمفاجأة: لقد اتصل به مصطفى قبيل الحفل واعتذر عن عدم المشاركة.. احترنا فى تفسير هذا التصرف الغريب فقد انتظر مصطفى لأعوام طويلة فرصة لقائه بالجمهور ولما جاءته تخلف عنها. كان رأيى أن مصطفى خاف من مواجهة الجمهور. لقد عاش طويلاً فى عالم افتراضى مريح يعتبر نفسه مغنياً عظيماً ومضطهداً بسبب مؤامرات الحاقدين على موهبته فلما حان الاختبار الحقيقى خاف من اجتيازه لأنه لو غنى وفشل أمام الجمهور فإن عالمه الافتراضى سوف يتحطم وسيكون عليه أن يواجه الحقيقة المؤلمة:

إنه غير موهوب وصوته لا يصلح للغناء، وبالتالى فإنه وحده المسؤول عن فشله. ما حدث لمصطفى المغنى يحدث للكثيرين منا. إننا كثيراً ما نرفض رؤية الواقع ونخترع عالماً افتراضياً يعفينا من المسؤولية ويرسم فى أذهاننا صورة متوهمة مريحة نكون فيها نبلاء ومظلومين بسبب شرور الآخرين. العالم الافتراضى يعفى الإنسان من رؤية الحقيقة لأنها قد تؤلمه أو تدينه. الإخوان الآن يعيثون فى مصر فساداً: قتل وحرق وتفجيرات واعتداءات على الشرطة والجيش والمواطنين.. هل يدرك الإخوان بشاعة جرائمهم؟.. لقد رأينا بالفيديو أنصار الإخوان يذبحون ضباط الشرطة فى كرداسة وهم يكبرون ويهللون. الإخوان يعيشون فى عالم افتراضى يعتبرون أنفسهم فيه مؤمنين أتقياء وورثة الأنبياء وهم يرون أنفسهم دائما ضحايا لتآمر أعداء ألإسلام، وهم يعتقدون أنهم فقدوا السلطة بسبب انقلاب عسكرى اشترك فيه فلول نظام مبارك والعلمانيون أعداء الشريعة بمباركة الصهيونية العالمية بالطبع.

لا جدوى إطلاقاً من تذكير الإخوان بخياناتهم للثورة وبانقلاب «مرسى» على النظام الديمقراطى بإصداره الإعلان الدستورى الذى جعل قراراته فوق القانون. لا جدوى من تذكيرهم بدعم الولايات المتحدة لهم ولا بملايين المصريين الذين نزلوا للإطاحة بمرسى قبل أن يتدخل الجيش.. لا فائدة من مناقشة الإخوان أساسا لأنهم يرفضون رؤية الحقيقة ويتشبثون بأوهام عالمهم الافتراضى. من الصعب على من قضى سنوات مقتنعاً بعقيدة الإخوان أن يعترف بأنه أضاع عمره فى الدفاع عن أفكار فاشلة وباطلة، كما أن شيوخه الذين طالما اعتبر طاعتهم من طاعة الله ليسوا فى الواقع إلا مجموعة من تجار الدين وطلاب السلطة والمتآمرين المجرمين. ليس أمام عضو الإخوان الا أن يتمسك بالعالم الافتراضى المريح الذى يعفيه من أى مسؤولية ويصور الإخوان مهما ارتكبوا من جرائم كمجاهدين مظلومين.. على أن ظاهرة العالم الافتراضى ليست مقصورة على الإخوان. فلول نظام مبارك أيضا يعيشون فى عالم افتراضى مريح لهم يعتقدون فيه أن الثورة التى خلعت مبارك ليست إلا مؤامرة إخوانية أمريكية خطيرة وهم يجهدون لترديد خزعبلات وأباطيل لإثبات أن هذه المؤامرة الكونية دبرتها المخابرات الأمريكية ضد زعيمهم المحبوب مبارك.

لا جدوى من مطالبة الفلول بتقديم أدلة الخيانة إذا كانت صحيحة إلى جهات التحقيق بدلا من تشويه سمعة خلق الله فى التليفزيون، ولا جدوى من تذكيرهم بأن الثورة المصرية كانت متوقعة قبلها بعشر سنوات، وقد اشترك فيها 20 مليون مواطن يستحيل أن يكونوا متآمرين أو عملاء. إن فلول مبارك، تماما مثل الإخوان، لا يريدون أن يواجهوا الحقيقة لأنها ستؤلمهم وستدينهم، وبالتالى يهربون إلى عالمهم الافتراضى. إن رجال الأعمال الذين صنعوا ثرواتهم بسبب استغلال علاقتهم بأسرة مبارك من الصعب عليهم أن يعترفوا بأنهم مجرد لصوص سرقوا الشعب المصرى، وبعض ضباط أمن الدولة الذين قاموا بتعذيب آلاف الأبرياء من الصعب عليهم أن يعترفوا بأنهم جلادون ومجرمون.. العالم الافتراضى وحده هو الذى سيمكن رجل الأعمال اللص من أن يعتبر نفسه اقتصاديا وطنيا، ويسهل على الضابط الجلاد أن يعتبر نفسه بطلا يقاوم المتآمرين العملاء..

إن أخطر ما يحدث فى مصر الآن أن الحقيقة لم تعد واحدة وإنما متعددة ونسبية وسط تشويش متعمد كثيف يمنع الرؤية. إن الإخوان والفلول عاجزون جميعا عن رؤية الحقيقة، ويحاول كل فصيل أن يفرض أوهامه على الواقع. هل نحتاج إلى مناقشة هذه الأفكار، بينما الدولة تخوض حربا ضد إرهاب الإخوان؟!.. إننا أحوج اليوم، أكثر من أى وقت مضى، إلى رؤية الحقيقة بوضوح مهما كانت تؤلمنا أو تديننا. هل يستطيع الطبيب أن يتوصل إلى علاج المرض إذا كانت نتائج التحاليل غير دقيقة؟.. هل يستطيع الخبير الاقتصادى أن يضع حلا لأزمة اقتصادية إذا اعتمد على إحصائيات ملفقة؟.. وكذلك نحن المصريين لا يمكن أن نخطو إلى الأمام إلا إذا اعترفنا بالحقائق التالية:

أولا: كان نظام مبارك فاسدا وفاشلا وقمعيا وخلال ثلاثين عاما من حكمه تدهورت أحوال بلادنا حتى وصلت إلى الحضيض فى كل المجالات، وقد تسبب مبارك فى قمع وقتل ألوف المصريين بسبب الإهمال والفساد فى كل مكان، بدءا من المستشفيات العامة وعبارات الموت، وصولا إلى القطارات المحترقة والأسمدة والأطعمة المسرطنة. فى يناير 2011 ثار المصريون ضد مبارك، وكانت الثورة نموذجا متحضرا أثبت للعالم كله كيف يستطيع شعب أعزل أن يخلع حاكما مستبدا تحميه آلة قمع جبارة. لم يتنح مبارك عن الحكم حقنا للدماء كما يردد الفلول فى عالمهم الافتراضى، بل إنه، خلال 18 يوما فقط، قد تسبب فى قتل ألفين من المواطنين بالرصاص الحى، وألف مفقود حتى الآن (قتلتهم شرطة مبارك غالبا وتم دفنهم فى أماكن مجهولة) بالإضافة إلى إصابة 18 ألف مصرى برصاص الشرطة، كثيرون تسببت إصاباتهم فى عجزهم الجزئى أو الكلى..

ثانيا: المجلس العسكرى السابق، وإن كان رفض قمع الثوار فى البداية إلا أنه انقلب عليهم بعد ذلك وحدثت تحت حكمه عدة مذابح بشعة راح ضحيتها مئات المصريين والمجلس العسكرى المسؤول السياسى الوحيد عن هذه المذابح التى لم يتم التحقيق فيها ولا محاسبة المسؤولين عنها حتى الآن

ثالثا: الثورة ليست مسؤولة عن تولى الإخوان الحكم، بل إن نظام مبارك هو الذى قام بتجريف الحياة السياسية أولا بأول ما منح الإخوان الفرصة باعتبارهم الكيان الوحيد المنظم، وجعلهم يفوزون فى أى انتخابات غير مزورة أيام مبارك مثل انتخابات النقابات والجولة الأولى من انتخابات مجلس الشعب عام 2005. كان من الطبيعى بعد الثورة أن يمنح الشعب ثقته للإخوان ليختبرهم، فلما فشلوا فى الاختبار وانكشفت حقيقتهم الإجرامية حجب عنهم الشعب ثقته وأطاح بهم بعد عام واحد.

رابعا: ثبت الآن على وجه القطع أن الانتخابات الرئاسية التى أجريت فى العام الماضى لم تكن سوى مسرحية سخيفة تمت بغرض خداع المصريين ومنح الرئاسة لمرشح الإخوان. لم تطبق أى قواعد تكفل سلامة الانتخابات، فلا شفافية فى التمويل تعلن للرأى العام من يمول حملات المرشحين ولا تطبيق جاد للحد الأقصى للإنفاق على الحملات الانتخابية، كما أن النتائج لم تلغ فى لجان كثيرة شابتها مخالفات موثقة وجسيمة. الأخطر من كل ذلك أن اللجنة العليا للانتخابات لم تلتفت إلى الطعون التى قدمها المرشحون ضد بعضهم البعض. فى الجولة الأولى تقدمت حملة حمدين صباحى بشكاوى عديدة أثبتت فيها أن عددا كبيرا من ضباط الشرطة قد صوتوا لصالح شفيق بالمخالفة للقانون لكن لجنة الانتخابات تجاهلت كل هذه الشكاوى، وفى الجولة الثانية تقدم شفيق بطعون تتهم مرسى بالتزوير فلم تلتفت إليها اللجنة، وأعلنت فوز مرسى بالرئاسة. كيف نثق فى لجنة انتخابية تعلن المرشح الفائز قبل التحقيق فى الطعون المقدمة ضده؟!.. جريدة الوطن نشرت مؤخرا حديثا مع المستشار عبدالمعز إبراهيم، عضو لجنة الانتخابات، قال فيه إنه نبه اللواء ممدوح شاهين إلى أن قانون الانتخابات غير دستورى فأجابه شاهين:

«أنا عارف والمشير عارف. شوف شغلك».

هذه الواقعة تؤكد سيطرة المشير طنطاوى على لجنة الانتخابات، وتؤكد أنه لم تكن هناك انتخابات رئاسة ولا يحزنون. كانت هناك إرادة سياسية خلف الكواليس تستهدف تسليم الرئاسة لمرشح الإخوان، وكل ما حدث على المسرح كان بغرض تنفيذ هذه الإرادة. الآن يعود كثيرون إلى طرح مرشحين للرئاسة، وكأننا نريد أن نتعرض لنفس الخدعة من جديد. أى انتخابات ستجرى فى نفس ظروف الانتخابات السابقة تعنى، ببساطة، أن المرشح الذى سيفوز هو من تم تحديده فى الكواليس. علينا أولا أن نتأكد من شروط الانتخابات النزيهة قبل أن نختلف على المرشحين..

خامسا: لقد كانت 30 يونيو موجة ثورية عظيمة اشترك فيها ملايين المصريين للتخلص من حكم الإخوان الفاشيين، ورغم كل الأخطاء التى ارتكبتها السلطة الانتقالية فواجبنا، فى رأيى، أن ندعمها لأنها تخوض حرباً ضد إرهاب الإخوان الذى يستهدف إسقاط الدولة، كما أن مشروع الدستور الذى أعدته لجنة الخمسين (باستثناء مادة محاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية) يعتبر من أفضل الدساتير التى عرفتها مصر، ومهما كانت ملاحظاتنا على الدستور أرجو أن ندرك جميعا أن تصويتنا لن يكون على الدستور، وإنما على عزل مرسى والإطاحة بالإخوان. كل من شارك فى 30 يونيو، فى رأيى، من واجبه أن يوافق على هذا الدستور، ليثبت للعالم كله أن إرادة الشعب هى التى أطاحت بحكم الإخوان، وأن الجيش لم يقم بانقلاب وإنما نفذ إرادة الشعب..

الديمقراطية هى الحل

المصدر جريدة المصري اليوم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *