عمرو الشوبكى يكتب | الرواية الثانية

عمرو الشوبكى يكتب | الرواية الثانية

عمرو-الشوبكى

ما جرى فى مصر، منذ 30 يونيو، يختلف عما عرفته البلاد، على مدار عقود طويلة، فسيظل تاريخ سقوط حكم الإخوان وعزل الرئيس السابق مثار خلاف وانقسام عميق بين أغلبية تحكم، وأقلية تعارض، وداخل كل تيار هناك تنوعات مختلفة فى درجة التأييد والمعارضة، ويبقى السؤال: ما هو مستقبل الرواية الثانية التى قرأت بصورة مختلفة ما جرى فى مصر فى هذا التاريخ، وتتبناها شرائح مجتمعية وسياسية ليست بالقليلة حتى لو لم تمثل أغلبية الآن، وهل لهذه الرواية مستقبل غير الصوت الاحتجاجى الذى تتبناه من جهة بعض الائتلافات والقوى المدنية، والصوت التخريبى المحرض أو الممارس للعنف، والكاره للدولة والمجتمع، ويقوده من جهة أخرى الإخوان؟ وهل يمكن أن نتحدث فى المستقبل عن رواية ثانية يمكن أن تنافس الرواية الأولى السائدة والمنتصرة بعد 3 يوليو وتساهم فى بناء نظام ديمقراطى وتحت أى شروط؟

إن فكرة الرواية الثانية ضاربة فى جذور كثير من المجتمعات والثقافات المختلفة، وليست فقط حالة مصرية، فرواية اليسار فى أوروبا بدأت كصرخة احتجاج على النظم الرأسمالية، وامتلكت ذاكرة وتاريخاً مخالفاً للرواية البرجوازية السائدة، فالحديث عن «كميونة باريس»، المحاصرة والمجهضة كرمز لنضال الطبقة العاملة والكادحين فى العالم، مثلت ذاكرة خاصة لكثير من التنظيمات الشيوعية واليسارية، وتاريخ الانتفاضات العمالية والنشيد الأممى والكتابات الماركسية الثورية، كلها كانت وقوداً وجدانياً وسياسياً للرواية الثانية التى تبناها اليسار المعارض والاحتجاجى قبل وصوله للسلطة.

والمؤكد أن رواية اليسار تغيرت بعد أن وصل للحكم، فقد عرف أولاً انقساماً بين غالبية إصلاحية أسست أحزاباً سياسية اشتراكية، وأقلية بقيت أسيرة الخطاب الاحتجاجى، ونجح ثانياً فى أن يحول روايته الاحتجاجية إلى رواية بديلة، واستطاع أن يبنى مؤسسات حزبية وشبكات مصالح جديدة تختلف عن تلك التى دعمت اليمين بتنوعاته المختلفة.

رواية اليسار فى أمريكا الجنوبية كانت ثورية بامتياز، وأقصيت بقسوة من قبل نظم عسكرية مكتملة الأركان، وهو ما ساعدها على أن تؤسس مشاريع سياسية بديلة، أعادتها للسلطة فى قالب اشتراكى ديمقراطى إصلاحى، ولعل تجربة شيلى ذات دلالة فى هذا المجال، فقد وصل اليسار فى نوفمبر 1970، بزعامة المناضل سلفادور الليندى، إلى السلطة، ولم تمض 3 سنوات إلا وقام قائد الجيش خوسيه بينوشيه بانقلاب عسكرى فى 11 سبتمبر 1973 بدعم وترتيب من الولايات المتحدة، واستمر فى الحكم 27 عاما، اختفى وقتل فى عهده ما يقرب من 30 ألف شخص، إلى أن وضع دستوراً جديداً للبلاد عام 1980، وأصبح بعدها قائداً للجيش وعضواً فى مجلس الشيوخ، إلى أن أوقفه قاض إسبانى أثناء رحلة علاجية فى بريطانيا، وقدم إلى المحاكمة بتهم انتهاك حقوق الإنسان، إلى أن أطلق سراحه لأسباب طبية، وتوفى بعدها.

المفارقة أن كثيراً من قوى اليمين فى أمريكا الجنوبية كانت حليفة للنظم العسكرية التى سبقت بناء الديمقراطية، وعدلت من أوضاعها بعد سقوط الديكتاتوريات العسكرية، وتبنت رواية أخرى غير التى تبناها اليسار، ومختلفة أيضا عن تلك التى تبنتها أثناء حكم العسكر، حين قالت مثلاً فى حالة شيلى إنهم يفتخرون بقضاء بينوشيه على ما سُمى بداية الشيوعية فى شيلى، وقتال الجماعات الإرهابية الثورية مثل مير MIR، وتطبيق سياسات السوق الليبرالية الجديدة التى وضعت الأساس للنمو الاقتصادى السريع الذى استمر حتى الثمانينيات.

وقد لا تصمد هذه الرواية كثيراً من الناحيتين الأخلاقية والسياسية أمام رواية اليسار، ولكن الأبرز أن كلتا الروايتين، رغم ما فصل بينهما من دماء وعداء، استطاعتا أن تتعايشا بعد فترة طويلة من الصراع الدموى، رغم خلافاتهما الفكرية والسياسية، ولعل مشهد تسلم الرئيسة التشيلية، ميشيل باشليت، وشاح الرئاسة (بعد فوزها فى الانتخابات التى جرت الشهر الماضى بأغلبية مريحة بلغت 60% فى مواجهة مرشحه اليمين) من رئيسة مجلس الشيوخ وهى إيزابيل الليندى، ابنة الرئيس الراحل سلفادور الليندى، دليل على أن الديمقراطية ودولة القانون نجحتا فى دمج كلتا الروايتين بعد تهذيبهما فى العملية السياسية، فالليندى الأب الذى وصل قبل موعده للسلطة أقصى عنها بطريقة دموية، وابنته عادت لها وتولت منصباً رفيعاً، وهى جزء من عملية سياسية، لم تنتقم من الدولة ولا الجيش ولا حتى من النخب التى دعمت الانقلاب على والدها.

الرواية الثانية فى العالم الإسلامى فى جانبها الأعمق تتعلق بالانقسام المدنى الإسلامى، صحيح أن هناك رواية يمينية وأخرى يسارية، وناصرية ووفدية، وملكية وجمهورية، ولكنها فى الحقيقة ليست بنفس العمق الذى انقسم على أساسة العالمان العربى والإسلامى بين رواية الإسلاميين ورواية المدنيين، فتركيا ظلت أسيرة لروايتين منذ أسس مصطفى كمال أتاتورك الجمهورية التركية عام 1923 وظلت روايته هى السائدة والحاكمة، وأقصت بشكل كامل التيارات المحافظة والإسلامية، إلى أن جاءت لحظة إعادة بناء الروايتين على أسس إصلاحية وديمقراطية تعترف بالآخر وتقبله، فظهر تورجت أوزال، الرئيس التركى الراحل، الذى أجرى فى الثمانينيات إصلاحات عميقة فى بنية النظام السياسى التركى، سمحت لأنصار الرواية الثانية بالتواجد المؤثر ثم الوصول للسلطة، فوصلت أولاً الطبعة التركية من جماعة الإخوان المسلمين إلى السلطة عام 1995، وفشلت فشلاً مدوياً، وهو ما دفع الجيش للتدخل فيما وصف بالانقلاب الناعم، وأقصى حكومة أربكان عن الحكم عام 1997.

ولعل ذلك ما دفع الجسم الأكبر فى حزب أربكان لمراجعة مواقفه وطريقة تعبيره عن روايته الثانية، فأعلن، بشكل واضح، إيمانه بالعلمانية والجمهورية التركية، ووصل للحكم وبقى فيه 12 عاماً، فانتقلت له أمراض البقاء الطويل فى السلطة، وأصبح عبئاً على النظام السياسى برمته.

تجربة تركيا مثيرة من زاوية أن من يعرف فيها روايتى طرفى الصراع سيكتشف أنها كانت متناقضة إلى حد كبير، فقد ظل التيار الإسلامى يرفض علمانية أتاتورك ويتحدث عن رواية أخرى مناقضة لرواية العلمانيين فى تركيا، ودخل فى معارك على مدار 80 عاما كان هدفها إسقاط الجمهورية العلمانية المدعومة من الجيش ولم ينجح.

ولعل مشروع أربكان كان، فى جانب كبير منه، ابنا لهذا الاستقطاب بين الروايتين ففشل، على عكس أردوجان الذى وصل للحكم باعتباره ابن التوافق بين الروايتين، فنجح دون أن يعنى ذلك اختفاء خلافاتهما، وتمت إدارة الصراع السياسى بينهما بطريقة سلمية وديمقراطية لا يعدم فيها رئيس وزراء لأنه أعاد الأذان كما حدث مع عدنان مندريس عام 1960 وبدا الصراع فى تركيا الآن بين روايتين إحداهما أصابها جنون العظمة بعد أن بقيت فى السلطة 12 عاماً، والأخرى علمانية انتقلت للمعارضة وتناضل بشكل ديمقراطى، ودون أن تسمحا بانتقال الصدام بينهما إلى الصورة التى جرت فى عام 1960 أو 1980 (انقلاب الجيش اعتقل ما يقرب من نصف مليون مواطن تركى بعد سقوط 50 ألف قتيل فى السبعينيات).

أما فى مصر فالمؤكد أن هناك روايتين لا تتعلقان فقط بقراءة ما حدث فى 3 يوليو، إنما أيضا هناك رواية ثانية (إسلامية) فى مواجهة مسار تأسيس الدولة الوطنية الحديثة على يد محمد على فى عام 1805 وبناء الجمهورية عام 1954 على يد جمال عبدالناصر.

وقد تعمق هذا الانقسام بوصول الإخوان مبكراً للسلطة، وهم يحملون رواية معادية للدولة الوطنية وللدستور المدنى، وتعانى من عقد الاضطهاد والكراهية تجاه هذه الدولة، فشعر الناس بأنها جماعة من خارجهم لا ترى المجتمع وتكره الدولة، فكان سقوطها نتاج تحالف بين الشعب والدولة فى مواجهة ما اعتبروه «الجماعة الوافدة».

ومنذ ذلك التاريخ والإخوان وحلفاؤهم لديهم رواية ثانية لما جرى فى مصر، هذه الرواية لم تحاول، ولو لمرة، أن تعترف، كما فعل أنصار الروايات الثانية فى العالم كله، بأن هناك شرعية للرواية الأولى، وأن عبدالناصر بطل تحرر وطنى كبير (حتى لو اختلفوا معه) وليس مجرد مضطهد للإخوان على طريقة الستينيات وما أدراك ما الستينيات، وأن الوفد كان ضمير الحركة الوطنية المصرية رغم كراهيتهم له.

مشكلة الرواية الثانية فى مصر أنها مازالت رواية احتجاجية، وأن كثيراً من الأطراف التى هى جزء من مشروع الرواية الثانية ومن خارج الإخوان (كمصر القوية وغيره من التيارات الإسلامية غير الإخوانية) مازالت أسيرة الصوت الاحتجاجى ومازالت أسيرة بكائيات رابعة المؤلمة، ولم تر فيها إلا مذابح «الانقلاب» ونسيت أن المسلحين الإرهابيين، الذين شاهدهم الجميع (إلا الإخوان) مختبئين وسط المتظاهرين المدنيين، هم المسؤولون الأوائل مع قادة الجماعة عن سقوط هذا العدد من الضحايا.

إن اختزال ما جرى فى مصر يوم 3 يوليو بانقلاب عسكرى يعنى أن أصحاب الرواية الثانية لم يروا أن الجزء الأكبر من الشعب المصرى لفظ حكم الإخوان وكرهه، وأن تصور الإخوان وسعيهم لهدم الدولة، وربما جلب تدخل عسكرى أجنبى حتى لو كان ثمنه هو ملايين الضحايا وتدمير الوطن والمجتمع هو خطاب لن يكون جزءاً من أى مستقبل.

الرواية الثانية لها مشروعية وأساس مجتمعى وثقافى لا يمكن لأى عاقل من أنصار الرواية الأولى أن ينكره، يل ويمكن أن يساهم فى ضبط المسار السياسى وإصلاح كثير من جوانب الخلل الموجودة فيه، وأن مستقبلها متوقف على قدرتها على أن تتحول من طاقة هدم وتخريب إلى طاقة بناء وعمل مؤسسى وإصلاحى حقيقى، وهذا أمر يمكن أن تقوم به تيارات مدنية وإسلامية من خارج تنظيم الإخوان غير المؤهل على ضوء ممارساته الحالية أن يندمج فى أى مسار سياسى.

المطلوب أن يبنى الإطار السياسى والقانونى للبلاد على أسس صحيحة تسمح للروايتين بأن تتعايشا وتختلفا بشكل سلمى، وقد تتداولا السلطة فيما بينهما إذا وعى الجميع أن أكبر تحد للرواية الأولى هو فى وجود رواية ثانية لديها بديل سياسى ومؤسسى للرواية الأولى، وليست مجرد صوت إرهاب وهدم يردده قطاع ليس بالقليل من أنصار الرواية الثانية.

 

 

 

 

 

 

المصدر:المصرى اليوم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *