فهمي هويدي يكتب| عن السياسة وتدخلاتها

فهمى-هويدى

الدليل الذى استخدم لإدانة الليبى فى تفجير لوكيربى قبل خمسة عشر عاما كان مزورا، وأريد به توريط نظام العقيد القذافى لتبرير اغتياله سياسيا ومعنويا. والشرطة التى تعاملت مع ملف الرجل عبدالباسط المقرحى الذى توفاه الله فى العام الماضى ــ جرى تضليلها بواسطة المخابرات المركزية الأمريكية التى أرادت الإيقاع بالزعيم الليبى. هذا الكلام ليس من عندى، كما أننى لا أستبعده. ولكنه خلاصة تقرير نشرته صحيفة «الإندبندنت» البريطانية فى مناسبة الذكرى الخامسة والعشرين لتفجير طائرة شركة «بان أمريكان» فوق بلده لوكيربى الإسكتلندية، واعتمدت الصحيفة فما ذكرته على ما توصل إليه اثنان من المحققين كلفتهما هيئة الدفاع عن المقرحى بتحرى الأمر. وكان اللعب فى الأدلة وتزوير الإفادات مما أشار إليه المحققان، اللذان وجها أصابع الاتهام إلى شاب مصرى يعيش فى السويد تربطه علاقات مع مجموعات فلسطينية مسلحة.

ما يهمنى فى الموضوع جزئية واحدة تتمثل فى لجوء المخابرات المركزية الأمريكية إلى اللعب فى الأدلة من خلال تزويرها وتضليل الشرطة الاسكتلندية لكى تتم إدانة النظام الليبى وتصفية الحساب المتراكم مع العقيد القذافى. وهو التزوير الذى حقق مراده بحيث حكم القضاء الاسكتلندى بإدانة رجال القذافى وإرغامه فى نهاية المطاف على الاعتراف بالجرم، ودفع أكثر من سبعة مليارات دولار تعويضا لأهالى الحادث الذى قتل فيه 270 شخصا.

هذا الجانب الذى كشفت عنه الصحيفة البريطانية يثير قضية العلاقة بين السياسة والقضاء، التى نعرفها جيدا ولنا خبرة طويلة ــ ومريرة معها ــ ومن خبرتنا تعلمنا انه فى القضايا التى تتعلق بالحسابات السياسية فإن أجهزة السلطة التنفيذية تلجأ إلى حيل عدة، لكى تستصدر الأحكام لصالحها من خلال أمرين، أولهما ترشيح الدوائر القضائية التى يعرف عن أعضائها «تعاونهم» مع السلطة. وثانيهما التلاعب فى الأدلة وتوفير الشهود اللازمين لتحقيق الهدف المراد. والشق الأول تنهض به الجهات المختصة فى وزارة العدل، والثانى تتولاه الأجهزة الأمنية بمعرفتها. ولئن اعتبر ذلك استثناء فى الدول الديمقراطية، إلا أنه يعد قاعدة فى الدول غير الديمقراطية التى يصبح فيها القضاء أحد الأذرع التى تستخدمها الدولة لقمع المعارضين والتخلص من مشاغباتهم. ولا يعنى ذلك تبرئة أو تبرير موقف الأولين وإدانة موقف الأخيرين، لأن أى تدخل فى الشأن القضائى عمل شرير ومرفوض فى كل أحواله، ولكنى أردت بالمقارنة أن انبه إلى أن الجميع يتورطون فى ذلك الإثم، الذى يعد استثناء فى حالة وقاعدة فى حالة أخرى.

تدخل السياسة فى القضاء له تاريخ فى مصر. وأحسب أن ذلك التدخل بلغ ذروته خلال السنوات الثلاث الأخيرة التى أعقبت الثورة، وخلالها تمت تبرئة كل الذين اتهموا بقتل المتظاهرين، باستثناء واحد أو اثنين. كما أن الأحكام التى صدرت ونتائج التحقيقات التى أعلنت بل وتقارير الطب الشرعى التى صدرت، هذه كلها جاءت متطابقة مع اتجاهات الريح السياسية.

من المفارقات أن بعض القضاة المستقلين وجهت إليهم أصابع الاتهام حينما تحدثوا عن التمسك بالقانون والشرعية، على نحو لم يكن متوافقا مع الوضع المستجد. فى حين أن زملاء لهم انضموا إلى المتظاهرين الذين أيدوا الانقلاب فى ميدان التحرير إلا أن الأولين، وحدهم تعرضوا للعقاب والاتهام. وقرأنا أنه تم فصل 75 منهم من عضوية نادى القضاة بالمخالفة للتقاليد المستقرة، وأن ثمة تحقيقا يجرى معهم الآن بهذا الخصوص، أما الآخرون الذين انضموا إلى الطرف المقابل فلم يمسهم أحد بسوء. ذلك رغم أن الفكر القانونى يفرق بين إبداء الرأى فى الشأن السياسى العام الذى يعد من قبيل الانشغال بالسياسة، وبين الانخراط فى عضوية تنظيم سياسى معين، الأمر الذى يعد اشتغالا بالشأن السياسى. والموقف الأول مقبول باعتباره من قبيل ممارسة حقوق المواطنة، فى حين أن الاشتغال بالسياسة هو الذى يخل بحياد القاضى لأنه يعد فى هذه الحالة متحيزا إلى فصيل سياسى دون آخر.

جدير بالذكر فى هذا الصدد أن رئيس مجلس القضاء الأعلى ورئيس محكمة النقض المستشار حامد عبدالله الذى يعد شيخ القضاة المصريين شارك فى اللقاء الذى أعلن فيه الفريق عبدالفتاح السيسى خريطة الطريق التى أفضت إلى عزل الرئيس السابق. وقبل منه انخيازه إلى ذلك الموقف فى حين لقى الآخرون المصير الذى سبق ذكره.

إن هناك شكوى دائمة من تدخل القضاة فى السياسة أو الدين فى السياسة أو الدعاة فى السياسة، فى حين أن المشكلة الحقيقية فى بلادنا على النقيض من ذلك تماما. إذ نحن نعانى بشدة من تدخل السياسة فى تلك المجالات وغيرها، وهى التى تضغط دائما لكى يتم التدخل لصالحها، ولا يشهر الحظر وتتم المؤاخذة إلا إذا جرى التمرد عليها ولم يكن منسجما مع هواها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *