كريم علي يكتب عن رواية – ابناء الجبلاوي – لـ/ابراهيم فرغلي

عرفت رواية “أبناء الجبلاوي” منذ فترة.. لكني ولأسباب كثيرة معظمها نفسي لم أستطع أن أقترب منها بسبب حصولها على جائزة أدبية كبيرة بمصر, أعتقد أنه بسبب أنني لا أرتاح للزحام, فبشكل لا إرادي إنتظرت حتى إنتهى الزخم والحديث الكثير عن الرواية لأستمتع بها في هدوء بعد ذلك, الذي فاجئني فور إنتهائي منها والسماح لنفسي أخيراً بأن أقرأ بعض ما كُتب عنها فوجئت بأنها كانت ممنوعة من مصر لفترة وتكهنت بعض الصحف بأن السبب هو جرعتها الجنسية وتكهنت أخرى برمزيتها السياسية لتقاعص الجهات الحكومية عن القيام بعملها! ما فاجئني فعلاً أن أسلوب إبراهيم فرغلي لم يكن بالأسلوب الصارخ فضلاً عن أني إعتبرت أسلوبه هادىء جداً في بث فلسفة الشخصيات وخيالاتها الجنسية.. ولا حتى رمزية إدانة الجهات الحكومية كانت ممن تغضب أحداً أي طفل صغير في الشارع يعرف كمية فساد موجودة أكثر مما أثاره الكاتب بكثير! فضلاً عن أنه أتيحت روايات كثيرة أخرى تتناول كلا الموضوعين بالفحص والتمحيص أكثر من ذلك بكثير ولم تواجه مشاكل.. لكن بعد أن تواصلت مع الكاتب مباشرة كنت سعيداً بقوله أن الحظر كان له علاقة أكثر بقوانين النشر وبعض البيروقراطية.. المهم أن الرواية مُتاحة الأن ولم تختفي مرة أخرى..إستخدمت الرواية أسلوب جديد على الرواية العربية بإلتفاف الواقعي على الخيالي, وإمتزاج الفنتازيا بالعالم الحقيقي – حقيقي على الأقل بالنسبة للرواية – و خيال نجيب محفوظ يتجسد في واقع وهو ما يجعل تشابك عدة مستويات من الوعي خلال القراءة, لم يمر وقت طويل حتى فقد شهيتي في التفريق بين ما هو واقعي وما هو فانتازي والإكتفاء بالإمتزاج معهما بقواعدهم وشروطهم الخاصة..

عملية السرد كانت ككرة يتقاذفها الرواة فيما بينهم ما تكاد تعتاد أحدهم/هن حتى يلتقط طرف الخيط راوي أخر ليحكي ويعيد فهم وكتابة نفسه والأخرين و واقعه بإستخدام عدساته الخاصة في سلسلة كتابية ربما تمثل نقطة نهايتها قفل الإغلاق على بدايتها لإكمال الدورة القصصية وإتمام المتاهة لتحقق عنوان الفصل الأخير “حكاية بلا بداية ونهاية”.. لم أتيقن لحظة إنتهائي من الصفحة الأخيرة في الرواية هل أمنت أكتر بما يرمز له واقع الرواية, أو أحببت أكتر عالمه الفنتازي المليء بخليط الفلسفة وعُزلة الكتابة السحري, باريس والموسيقى و الثورة على الأفكار التي كساها التراب.. ربما اختلط هذا عندي أيضاً في منطقة ما بين الوعي واللا وعي في المنحدر الهوائي المتقلب صعوداً ونزولاً خلال السرد!أعجبتني أيضاً أجزاء عن وجهات نظر وجودية المعنى فيما أظن تسربت على لسان أفكار أحد الشخصيات:
“صورته على تلك الحال كثيراً ما استوقفتني; لإنها تجسد واحدة من أكثر حالات البشر حثاً على التعاطف, بل وعلى الاحترام. ففي لحظات كهذه, يبدون في ذروة حالات الجدية, والإنسانية, والإشتغال على إنتاج ما. يستوي في ذلك نجار يؤدي عملاً يدوياً”…. “أو كاتب مشغول بفكرة عميقة قبل أن يحولها إلى كلمات على ورق”….”أو مويسقى يعزف, مستدعياً اللحن من أعماق ذاكرته, يحوله إلى إشارات وعلامات, يحرك بمقتضاها أنامله أو يديه على آلته الموسيقية مقسماً بها الزمن إلى نغمات. لماذا أحترم هذه اللحظات في عمر البشر؟ هل هو افتتان بما ينتجونه خلالها, أم تقدير لفكرة الخلق والابتكار؟ لا ليس لشيء من هذا, وإنما لأنها فترات الإخلاص التام في عمر البشرية. إخلاص كامل, لا يحركه سوى نزعات داخلية عميقة من أرقى مناطق الوعي البشري أو ضميره إنا شئتم.”

وشكلت أخرى رابطاً ومعنى لعدة أحداث تلخص تفسيرها في تعبير يظل يتردد فيما بيني رأسي و رأس أحد الشخصيات “لماذا تشغلين نفسك بهذا الصراع الدائم؟ اتركي نفسك على سجيتها، الروح تنتقل في النهاية لما تحب”..

في بداية الرواية عندما عرفت علاقة الأحداث بنجيب محفوظ كنت قلقاً من إحتمال إستعارة الكاتب للغة نجيب محفوظ أيضاً في الكتابة وربما كانت ستكون سبباً في إفساد التجربة كلها وتحويلها لمسخ! رغم صعوبة الخروج من عباءة وأسلوب كاتب تحبه ربما يجعلك تعيد كتابة نفس الفكرة عشرات المرات لتضمن بها أن الفكرة أصيلة بما يكفي نابعة من دواخلك أنت.. أعتقد أن فرغلي قد عانى في ذلك بما يكفي وربما إنطوت الرواية أيضاً على ذلك المعنى في اختبارات شاقة لضمان كون الفكرة أصلية ونابعة من الكتاب فقط وليس لها أي علاقة بتأثره لا بأسلوب أو أفكار أخرين..

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *