نجيب محفوظ.. الإبداع في مواعيد منتظمة – مقال للكاتب / عاكف فكري

عندما تنظر إليه لأول مرة، ترى عليه سمت الموظفين المألوف، ذلك النموذج الذي نقابله كل يوم في المترو، أو الأتوبيسات الحكومية، ونستطيع أن نحدد هوّيته على الفور، حتى عندما يجلس في مكتبه وينتظر شيئًا ما، تُدرك أن هذا الرجل موظف صميم، لعله امتداد للكاتب المصري القديم الجالس القرفصاء.

وفي الواقع أنت لست مخطئًا تمامًا، ولست محقًا تمامًا، والأمر ليس لغزًا مستعصيًا. ما زال صاحبنا جالسًا، والآن يمسك قلمه ويبدأ في الكتابة. كلا.. كلا.. ليست أعمالاً حكومية جلبها معه من وزارة الأوقاف حيث يعمل. إنه يكتب رواية.. أو قصة قصيرة.. في ذات الموعد من كل يوم.. قد تكون هناك خطة مسبقة؛ تتمثل في ملف شامل يحتوي على أسماء الشخصيات، وسماتها النفسية والشكلية، وكأنه يجري دراسة أكاديمية مرهقة، كما فعل في ثلاثية “بين القصرين”، على سبيل المثال. وقد يجلس دون تصور، ولأنه غير مقتنع بفكرة الإلهام الذي يأتي للكاتب، وبعزم الموظف الذي يؤدي مهمته مهما كانت صعوباتها، يبدأ في الكتابة بأي شيء، لهذا قد تندهش أنه بدأ أعمالاً له بتلك الكيفية مثل “حكاية بلا بداية ولا نهاية”.

على المستوى الشخصي والعملي، كان نجيب محفوظ يقدس الوقت بشكل لم نره في كاتب مثله أو بعده، حتى أن الطيب صالح انتقد محفوظ في سلوكه هذا؛ فبينما كان الطيب صالح يكتب ويستمتع بحياته، كان نجيب محفوظ على النقيض. ينفذ كل شيء في وقته المحدد، دون تأخير، ورأيي الشخصي أن سلوك كل واحد من الكاتبين قد انعكس على كتاباته؛ فنجيب له عدد كبير من الروايات والقصص القصيرة والمقالات، بينما الطيب صالح تعدّ أعماله عدًّا.

عندما كتب الفنان الراحل فريد شوقي قصة فيلمه  الشهير “الأسطى حسن”، وبصفته البطل والمنتج أيضًا، فقد اتفق مع نجيب محفوظ على أن يقوم بضبط الشخصيات والإيقاع الحيوي لأحداث الفيلم، وهي سمة نراها في رواياته، والتى جعلت صلاح أبو سيف ينصح نجيب بتعلّم السيناريو.

نعود للموقف الذي يحكيه فريد شوقي، فقد كان يتقابل هو ونجيب والسيد بدير في أحد الكازيونات، وقبل الموعد بدقائق يكون نجيب محفوظ قد أتى، وانتظر الرجلين. وطوال شهور عديدة كانوا يتقابلون في ذات الموعد، وبعد انتهاء سيناريو الفيلم، فوجئ فريد شوقي أن المبلغ الذي دفعه لنجيب محفوظ قد ردّه إليه. أبدى فريد شوقي دهشته، وتساءل إن كان المبلغ غير مناسب للمجهود الذي بذله نجيب، لكن هذا الأخير أذهله بجوابه؛ فقد أخبره بأنه تعلّم في شهور عن حرفة كتابة السيناريو ما يستدعي أن يدفع لهما لا أن يأخذ نقودًا!

من ضمن المناطق المثيرة عن حياة الرجل مسالمته وموادعته، حتى أن البعض اتهمه بأنه مهادن للسلطة، وأنه لا يثور كما فعل بعض الكتّاب الآخرين.

يرى جلال أمين أن هذا التصور الخاطئ عن الرجل غير دقيق وظالم أيضًا؛ فماذا نكسب نحن من تهور نجيب محفوظ، لو دخل المعترك السياسي بكل قوته على حساب أدبه الجميل؟ وهو أمر يردنا إلى مقولة الكاتب الراحل أحمد بهجت عن يوسف إدريس، بأن هذا الأخير لو لم يعمل بالصحافة لزاد إنتاجه ثلاثة أضعاف.

ثم إن نجيب محفوظ لم يهادن السلطة على الإطلاق. صحيح أنه كان مجاملاً، ولا يحب الدخول في مشاكل، لكننا نراه انتقد السلطة في أعماله الأدبية، مثل “الكرنك”، في عزّ سطوتها.

وكانت أعماله الأدبية مرآة فنية صادقة لمجتمعه، تختلط بنظرته الفلسفية العميقة. كما استفاد محفوظ من التراث الأدبي والفلسفي والقصص الديني بشكل كبير، وساعد على هذا ثقافته الرفيعة، وتبحره في قراءة الأدب العالمي، وربما كانت الثلاثية نتاج قراءاته لبعض الأعمال التي تتحدث عن الأجيال.

ذات مرة تحدث بصوتٍ عال في المقهى المفضل إليه عن فكرة الثلاثية، ويبدو أن أحد الكتّاب كان جالسًا، فقرر أن يقوم بعمل رواية من ذات النوع، وقد صدرت بعد ستة أشهر!

تعلّم نجيب من هذه الواقعة ألا يفصح عن أعماله علانيةً مرةً أخرى، ولا داعي للتنويه بأن رواية الكاتب المجهول لا نعرف عنها شيئًا، بينما الثلاثية صارت ملء السمع والبصر.

كان قرارًا مدهشًا أن يتفرغ لها ثلاث سنوات كاملة، مع ملاحظة أنه لم يكن يكتب طوال العام، فهناك فترة يُصاب فيها بحساسية في عينيه تجعل من الصعب عليه أن يكتب.

رواية “الأجيال” رأيناها مرة أخرى في أعمالٍ له، مثل “الحرافيش”، و”حديث الصباح والمساء”.

كما قلنا، فإن نجيب كان مسايرًا لمجتمعه، ويستفيد منه بشكل إبداعي مختلف، سواء على مستوى الأفكار، أو التكنيك.

ففي الثلث الأول من القرن العشرين كانت هناك دعوة لإعادة وبعث الحضارة الفرعونية القديمة، وكان من أنصار هذه الدعوة: سلامة موسى ونجيب محفوظ وعبد الحميد جودة السحّار.

كان نجيب قد نوى أن يكتب فيما يربو عن أربعين رواية عن التاريخ الفرعوني، ولم ينجز من هذا المشروع الضخم إلا ثلاث روايات فقط، هي “رادوبيس، وعبث الأقدار، وكفاح طيبة.

في رواية “عبث الأقدار” استفاد من قصة سيدنا موسى مع فرعون مصر، وسيعود مرة أخرى للاستفادة من القصص الديني بشكل رمزي متوسع في روايته أولاد حارتنا.

المهم أنه لم يستمر بمناصرته هذه للقصص الفرعوني، وانجرف للمذهب الواقعي، واتجه عبد الحميد جودة السحّار للتاريخ الإسلامي.

أيضًا استفاد نجيب من التراث الأدبي الفانتازي المتمثل في ألف ليلة وليلة، والتي أثرّت على جيل كامل من المؤلفين من العرب والغربيين؛ فطه حسين كتب روايته أحلام شهر زاد، واستخدم توفيق الحكيم نفس التراث في مسرحياته، بينما عالج نجيب تلك الملحمة البديعة بشكلٍ مختلف؛ فقد بدأ بعد انتهاء زمن الحكايات، وقد فرغت شهر زاد من الحكي، وصارت حاملاً بابن شهريار. اللعبة الكبرى التي فعلها نجيب أنه انتزع الشخصيات الخيالية التي طالما حكت عنها شهر زاد، من واقعها الفانتازي المُتخيّل، ووضعها في حاضر شهريار، ونثرها في أرجاء مملكته. في رواية ليالي “ألف ليلة وليلة”، سنرى علاقة الحاكم بالسلطة وبالشعب، مع قصص مدهشة عن الحب، والجن، وسنلمح أفكارًا عميقة تتحدث عن الموت والحياة، والتطهير، وتغيير مسار الطريق، ويتمثل هذا في أعمق شخصية أدبية مررتُ بها في حياتي، ولعلها الأعمق على الإطلاق، شخصية جمصة البلطي قائد الشرطة الشرس، والذي يأخذ قرارًا مصيريًا باغتيال واحد من الصفوة، ثم يمرّ بتنقلات مدهشة، وكأنه رجل ضالّ يبحث عن معنى للحياة، وأثناء هذا الطريق الشائك يتعذب ويُصاب بالحيرة ويفهم، ويرتفع مقامه كأي ولّي صالح!

أيضًا استفاد نجيب من التاريخ؛ فنراه يكتب رواية “رحلة ابن فطومة”، على غرار رحلات “ابن بطوطة الرحّالة الشهير”، بل إن البعض يؤكد أن الكاتب البرازيلي باولو كويلو، قد سرق فكرة روايته الشهيرة “الخيميائي” من رحلة ابن فطومة هذه، مع الفارق أن عمل نجيب أمتع وأحكم وأكثر عمقًا وثراءً.

نختم هذه السطور بتوضيح جانب آخر من نجيب، فهو ابن نكتة حقيقي، وجلساؤه كم يتذكرون له من قفشات ونكات وخفة دم، وسخرية من مواقف معينة، وهو ما نراه في الفصل الذي خصصه خيري شلبي عن نجيب في كتابه: “عمالقة ظرفاء”.

كما أنه كان متابعًا جيدًا للأدباء الشبّان ومعاونًا لهم، حتى أنه أهدى لخيري شلبي في أحد كتبه إهداءً جميلاً، جعل هذا الأخير يطير فرحًا، وتتفجر منه منابع الإبداع. رحم الله نجيب محفوظ، فقد كان منارةً إبداعيةً فذة، وستظلّ ما بقي للبشرية وجود.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *