وائل عبد الفتاح يكتب | عندما كانت الشرطة تحمى العبيد

وائل عبد الفتاح يكتب | عندما كانت الشرطة تحمى العبيد

وائل عبد الفتاح

لماذا لم يتوقف التعذيب؟

ولماذا لم يحقَّق فى جرائم التعذيب حتى الآن؟

هل هناك قوة أكبر من المجتمع والدولة؟ أم أن هناك تواطؤًا أكبر يصعب علينا إدراكه؟ أم أنهم يتصورون أن الإنكار سيفيد وأننا سننسى بعد قليل ونقبل بالأمر الواقع ونحمد الله على أننا لم نكن ضحايا؟

الأسئلة أرجعتنى إلى مقال الصديق العزيز الدكتور خالد فهمى أستاذ التاريخ المعروف. المقال اسمه «الحياة الجرداء»، ويقصد بها الطريقة التى يجبَر فيها الإنسان على الحياة المجردة من أى معالم إنسانية، مجردة من الإنسانية، ويتناول فيها مفاهيم عن التعذيب من جوانتانامو إلى أقسام الشرطة فى مصر.

يحكى خالد فهمى فى المقال: «.. فى يوم 6 نوفمبر 1858ذهب (سلطان العبد) أحد العبيد العاملين فى دايرة إلهامى باشا، إلى المحروسة (كما كانت القاهرة تسمَّى وقتئذ) بعد أن أخذ إذنًا بالغياب مدة يوم واحد، على أنه لم يعد إلى الدايرة فى نهاية اليوم كما كان مقررا، وكانت هذه الدايرة تقع فى صحراء الحصوة التى عرفت لاحقا بالعباسية شمال غربى المحروسة، أما صاحبها فكان إلهامى باشا بن عباس باشا الذى كان يحكم البلاد حتى أربع سنوات خلَت فقط، أى أنه كان حفيد أخى الحاكم الحالى، سعيد باشا.

وعندما ظهر سلطان بعد اختفائه بيومين شرع ناظر الإسطبل الملحق بالدايرة، واسمه عمر بك وصفى، فى معاقبته العقاب الذى اعتبره مناسبا لجرمه ورادعا كافيا للعبيد الآخرين، إذ أمر بعض العبيد والخدم العاملين بالدايرة بجلد سلطان بالكرباج على ظهره وعلى إليتيه (مؤخرته) بعد نزع ملابسه، وقد بلغ عدد السياط رقما هائلا، إذ قال بعض العبيد إن سلطان تلقى 1500 سوط وإنه كان يتقيأ من شدة الألم وإن الدم كان يتناثر من إليتيه عند الضرب!! واشتطّ عمر بك فى تعذيب العبد فمنع عنه الأكل والشرب ورفض إرساله للعلاج حتى فاضت روحه بعد ثلاثة أيام.

وعندما سرى خبر موت سلطان بين أقرانه العبيد انزعجوا انزعاجا شديدا، وعقدوا العزم على أن لا يفلت عمر بك من فعلته واتفقوا فى ما بينهم على أن يذهب أحدهم ليبلغ الضبطية (أى مقر شرطة القاهرة وكان دورها شبيها بمديرية أمن القاهرة الآن). وعلى الرغم من بُعد الضبطية عن الدايرة (إذ كانت وقتئذ فى الأزبكية، وتفصلها عن الدايرة مسافة كبيرة من الصحراء)، فقد ذهب بالفعل أحد العبيد واسمه عبد الزين الأسود إلى الضبطية للإبلاغ عن الواقعة، وسرعان ما تبعه 26 عبدا آخرون قدَّموا فى ما يشبه مظاهرة احتجاج شكوى فى حق عمر بك مطالبين فيها بـ(أن الحكومة تجرى مجراها).

وبالفعل تحركت الحكومة وذهب مأمور الضبطية بنفسه إلى الدايرة، وبعد أن حاول الحرس منعه من الدخول تمكن فى النهاية من القبض على عمر بك واصطحابه إلى مقر الضبطية حيث جرى استجوابه، وبعد الحصول على تقرير الطبيب الشرعى (الذى كان يسمى وقتئذ «حكيم السياسة»)، قُدم عمر بك للمحاكمة، وبعد خمسة أشهر من المداولات وبعد أخذ رأى الوالى سعيد باشا نفسه فى القضية، صدر حكم بنفى عمر بك كليَّة من القُطر المصرى على أن لا يعود إليه أبدا.

حدث هذا من 150 سنة.. تم التحقيق فى واقعة تعذيب عبد أسود.. وكانت الشرطة ملاذ المظلومين والمعذبين.. وعاد الحق إلى الضحية بينما الجلاد نُفِىَ خارج البلاد إلى الأبد».. واقعة مدهشة.

ويقارن خالد فهمى بين هذه الواقعة وواقعة أخرى حدثت فى فبراير 2007 مقارِبة لها، إذ قبض أحد ضباط مباحث أمن الدولة على مواطن كان قد صدر بحقه أمر اعتقال، وحسب الروايات الصحفية قام الضابط بضرب المواطن أمام محطة مترو حدائق القبة وأوقع به إصابات استدعت إرساله إلى مستشفى الزهور ثم مستشفى الساحل التعليمى، وبعد أن أكد الأطباء تحسن حالته اُقتيد المواطن إلى قسم شرطة الحدائق، حيث تم تعذيبه حسبما جاء فى شهادة أحد المحبوسين احتياطيا داخل الحبس، ونتيجة لذلك التعذيب توفِّى المواطن فى القسم، وأكد تقرير الطب الشرعى أن «الإصابات الموصوفة بحلمتَى الثدى والعضو الذكرى تبين أنها من الممكن أن تكون نتيجة صعقه بالكهرباء باستعمال سلك كهربائى أو ما شابه ذلك»، وبناء على ذلك أحالت النيابة الضابط إلى محكمة جنايات شمال القاهرة، على أنه فى أثناء الجلسة الثالثة من المحاكمة قدم دفاع الضابط محضر تنازل من أبى الضحية، وعندما استدعت المحكمة أسرة القتيل تبين اختفاؤها فى ظروف غامضة.

المقارنة فتحت أمام خالد فهمى عدة ملاحظات من بينها أنه فى القضية الأولى تمكن عدد من العبيد السود من إقامة الدعوى على أحد البكوات العاملين فى دايرة أمير ينتمى إلى البيت الخديوىّ الحاكم، الذى كان يمثل عصب السلطة ومركزها فى ذلك الوقت، بينما نجد فى القضية الثانية أن أهالى الضحية بعد أن أكدوا أن ابنهم كان يتمتع بصحة جيدة قبل القبض عليه، وأنه لا يُعقَل أن يكون قد توفِّى وفاة طبيعية كما زعم الضابط، عادوا وأسقطوا حقهم ثم اختفوا كلية فى ظروف غامضة، أما الأمر الثانى اللافت للنظر فهو المكان الذى وقع فيه التعذيب، إذ نرى فى القضية الأولى أن عمر بك قام بتعذيب سلطان العبد فى دايرة تابعة لأحد الأمراء، مما قد يكون شجَّعه على فعلته النكراء ظنًّا منه أنه سيكون بمنأى عن مساءلة الحكومة، إلا أن الحكومة «ممثَّلة فى مأمور الضبطية ثم الوالى سعيد باشا بنفسه» قررت أن التعذيب، وإن كان أوقعه أحد البكوات على عبد أسود، لا يمكن التغاضى عنه، إذ إن عمر بك، بتعذيبه أحد الأفراد حتى الموت، «قد تجارى وتعدَّى وضيَّع حرمة الحكومة، فالحكومة لا تترك حق تعديه عليها، بل لا بد من أخذ حقها من نظير تعديه فى هتك حرمتها»، كما جاء فى أوراق القضية، أما فى القضية الثانية فنرى أن التعذيب قد تم فى قسم الشرطة أى فى نفس المكان المفترض أن يكون ملاذا للمظلومين ونصيرا للمستضعفين.

ويصل خالد فهمى إلى نتيجة مهمة انطلاقا من التباين بين هاتين القضيتين، الذى يوضح كيف تحول قسم الشرطة من مكان يحمى عبيدا سودا من بطش أحد البكوات إلى مكان يقوم فيه ضباط الأمن بتعذيب مواطن حتى الموت.

السؤال.. مُفجِع فعلا.

 

 

 

 

 

المصدر:التحرير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *