“ينطق القاضي الحكم بتلاوة منطوقه، أو بتلاوة منطوقه مع أسبابه ، ويكون النطق به علانية ، وإلا كان الحكم باطلًا”
ــ المادة 174 من قانون المرافعات .
“يصدر الحكم في الجلسة العلنية ، ولو كانت الدعوى قد نُظرت في جلسة سرية “
ــ المادة 303 من قانون الإجراءات الجنائية .
هذان النصّان يُقرّران واحدة من أهم الضمانات التي تُعزِّز ثقة الناس في القضاء ، وتؤكد نزاهته وحياده : علانية النطق بالأحكام ، ذلك أن الأحكام القضائية لا تُصدر لمجرد الفصل في الخصومات ، بل لتغرس في وجدان المجتمع شعورًا بسيادة القانون ، وتمنح المظلومين الأمل في أن نهر العدالة لا بد أن يبلغهم ذات يوم .
وقد استقر قضاء محكمة النقض على إرساء هذا المبدأ ، وقضت في غير قليل من أحكامها بوجوب النطق بالحكم علنًا في جميع الأحوال ، حتى ولو نُظرت الدعوى في جلسة سرية . فإن لم يُنطق به علنًا ، كان باطلًا بطلانًا مطلقًا متعلقًا بالنظام العام .
فعلانية النطق بالحكم قاعدة جوهرية ، لا يصح العدول عنها إلا بنص صريح يقرر خلاف ذلك ، تحقيقًا للغاية التي توخاها المشرع : تعزيز الثقة في القضاء والاطمئنان إلى أحكامه . ومن ثم ، فإن المحكمة التي تنظر الطعن في الحكم ملزمة بأن تتعرض لهذا العيب ولو من تلقاء نفسها .
ومع ذلك ، ورغم صراحة القانون واستقرار القضاء ، فقد جرى العمل في معظم المحاكم – على اختلاف درجاتها ، باستثناء بعض دوائر الجنايات – على مخالفة هذا الواجب الجوهري .
فلم يعُد الغلبة الغالبة من القضاة ينطقون بالأحكام ، لا في جلسة علنية ، ولا حتى في جلسة سرية . بل جرى العُرف على تسليم الأحكام إلى أمين السر في اليوم المحدد للنطق – أو بعده – ليتولى هو عملية الإبلاغ ، إن شاء ، وبالطريقة التي يشاء . فيتحوّل الحق في العلم بالحكم إلى مسألة خاضعة لأهواء ومزاج بعض الموظفين .
وفي هذا الواقع الملتوي ، لا يُهدَر فقط مبدأ قانوني جوهري ، بل تُفتح أبواب الفساد على مصراعيها . إذ يُصبح الحكم القضائي – وهو ذروة عمل العدالة – ورقة مساومة في يد من بيده الحكم ، وقد يجد بعض أمناء السر في ذلك وسيلةً لمساومة المتهم أو ذويه على “ثمن” الاطلاع على الحكم أو نسخه ، فيقع ما هو أفدح من مجرد مخالفة قانونية : تقنينٌ للابتزاز، وتطبيعٌ للرشوة ، وتلويثٌ لصورة العدالة في نفوس الناس .
وهكذا، أصبحت الغالبية العظمى من الأحكام الصادرة في واقعنا العملي باطلة بطلانًا مطلقًا متعلقًا بالنظام العام ، طبقًا لما قررته محكمة النقض .
علانية النطق ليست فقط حقًا للمتقاضين ، بل حقٌ للمجتمع ، وللعدالة ذاتها ، وللمحامين الذين – ويا للمفارقة – غالبهم صامتٌ عن هذا الحق ! تخيّل حجم الكارثة حين يسكت عن الحق مَن وُكل إليه الدفاع عنه ! فهذا الحق أُهدِر لأن المتقاضين والمحامين لا يتمسكون به ، رغم ما فيه من حماية أكيدة ، وضمان لصحة مواعيد الطعن ، ومنع التواطؤ بين الخصوم وبعض الموظفين للإضرار بالعدالة .
فكم من دعوى قيل لخصمها إن الحكم لم يصدر بعد ، بينما الواقع أنه صدر وقد يمضي موعد الطعن عليه ، فيقع الظلم وقع الصمت .
ولتكن هذه رسالتي الأولى إلى مجلس القضاء الأعلى :
أن يُعيد إحياء هذا المبدأ الجوهري ، لا أن يكتفي بإثباته صوريًا في محضر الجلسة ، خلافًا للواقع . فهم – بلا شك – أولى بالحرص على العدالة منا جميعًا .
ورسالتي الثانية إلى زملائي المحامين :
تمسّكوا بحقكم في علانية النطق بالأحكام . ولْيكن هذا السبب في صدارة أسباب الطعن، كلما صدر حكم لم يُنطق به على الوجه الذي رسمه القانون . فلعلها تكون بداية لإحياء نصوص قانونية رائعة ، ران عليها الإهمال ، وطالها النسيان ، وهي أولى بالتطبيق من كثير مما يُطبّق . نصوصٌ لو أُعيد لها الاعتبار ، لكانت كفيلة بإصلاح عِوَجٍ كبيرٍ أصاب جسد العدالة .