أحمد سمير يكتب | عيسى.. مقتل الكاتب الكبير

أحمد سمير يكتب | عيسى.. مقتل الكاتب الكبير

احمد سمير

(1) تصورات

كنت أعتقد أنّ الشخص خفيف الظل بالضرورة شخص نقي حتى التقيت بعيسى.
يتصور الإنسان أشياء عن الصحافة تنتهي عندما يلتقي بعيسى.

(2) 2005

في غرفة رئيس التحرير صورة لجيفارا وأخرى لحسن نصر الله وثالثة لمظاهرة يشارك فيها وسط جموع الأمن المركزي.

عيسى ناجح، وأنا أحب النجاح لذا راقبته باهتمام.. في كل عدد أرى الصفحة الأولى تتصدرها صورة لمهدي عاكف وثانية لـ «قفا مبارك» الشهير وثالثة لجمال مبارك.. ونبيع ونكسب ونبيع ونكسب.

كان يجيد صناعة خلطة صحفية شعبية.. المكاسب تتزايد وتتزايد معها طلبات المحررين في أجور عادلة.. نطلب اجتماعاً معه فيوافق بعد عدة أسابيع لكنه يبدأ الاجتماع قائلاً:

ــ أنا جاي النهارده أتكلم بس.

أسمع صوتاً خلفي: «أيوه زي كل مرة يعني».

ينتهى الاجتماع بما ملخصه «اللي مش عاجبه يمشي مش حتخانق مع رئيس مجلس الإدارة عشانكم».. فتقول لي زميلتنا دعاء:

ــ طبق صيني واتكسر قدامي.

خلال سنوات يراقب عيسى صفحات محرريه على الإنترنت ويحيلهم إلى التحقيق عندما ينتقدونه.. ومع الوقت أصبح في قائمة أصدقائي 22 صحفياًــ أحصيتهم مرة ــ فصلهم من جريدته خلال مواقف مختلفة.. اللافت أن بينهم أربعة من الخمسة الذين كانوا يتفاوضون باسمه وباسم الصحفيين حينما أقاله رئيس مجلس الإدارة.

راقبته باهتمام واستفدت كثيراً.. فقراءة الروايات الرديئة تعلمك ألا تكتب مثلها.

(3) 2007

كنت أعمل في الديسك المركزي (جهة الصياغة النهائية للموضوعات الصحفية) بالإضافة إلى نشري ما يزيد عن 27 موضوعاً صحفياً (بروفايلات) خلال شهر، لكنني فوجئت بأن راتبي 279 جنيهاً (كان 300 جنيه ولكن الراتب لا يشمل الضرائب ولا التأمينات فخصم منه).

رفضت أن أتقاضى ما أسموه «الراتب» ودخلت عليه مكتبه معترضاً فضرب على مكتبه بقبضته وسألني:

ــ وانت ازاي تسكت على كده يا أحمد؟

ارتبكت لحظة قبل أن أقول له:

ــ أسكت.. ما أنا بقول لك..

ــ لا لا مينفعش السكوت على الحق ده منك أبداً.. أنا حتدخل.

وتدخل.. ذهبت إلى المحاسب بعدها بنصف ساعة ليزيد من 279 الى 350..

كان هذا آخر يوم «فعلياً» لي في الجريدة.

(4) 2007

يمكنني تفهم أن يتقاضى أجراً يبلغ 90 ضعف ما كنا كمحريين نتقاضاه (حسبناه له مرة).. ويمكنني تفهم إرساله جواب فصل لي مدعياً أنه الإنذار الثاني بينما لم يرسل الإنذار الأول من الأساس.. أتفهم ولا أهتم فقد كنت عملياً توقفت عن الحضور إلى الجريدة أساساً.

لكني لم أفهم يوماً الإيذاء لمجرد الإيذاء..

استوقفني كثيراً إصراره على إرسال خطاب لوقف بدل النقابة لي وعندما تجاهله مجلس النقابة أرسل خطاباً للمجلس الأعلى للصحافة.

يتحدثون عن مواقف يصفونها بالمتلونة.. وماذا يعنيني من هراء مواقفه؟.. بيني وبينه ثأر.. هو مؤذٍ وأنا أكره المؤذين.

(5) 2011

أراه ثانية لكن هذه المرة في ميدان التحرير يوم 25 يناير 2011.

يلتف حوله الشباب ويبدو كقيادة.. كانت هذه المرة الأولى التي أرى فيها عيسى بمظاهرة.

فيما بعد التقطت له صورة شهيرة مع البرادعي ثم أصبح مقدماً لبرنامج على الجزيرة.. لكنه كلما راهن على سياسي أو موقف يفاجأ بهجوم شبابي.. يرتبك.. من هؤلاء؟.. هو يعارض مبارك قبل أن يولدوا.. هو قائد.. معلم.. قيادة تاريخية.. كيف يحق لهؤلاء انتقاده؟

ما انتظره من الثورة لم يحققه له ما اعتبره «رعونة شبابها» فقرر أن يغير وجهته نحو جمهور آخر.

(6) 2013

أشاهد التلفاز.. وأفهم منه أن زياد بهاء الدين رجل مثالي والأفضل أن يرحل من الحكومة لأن هذا ليس وقت مثالية.
بهذا الوضوح يتحدث..

يتحدث عيسى عن شباب يناير ممن يسميهم «مخنثين فيزيقياً».

من كان يسخر من فكرة الوطنية والهوس بحماية الدولة ويكتب في أهمية الاستقواء بالأجنبي بتخريجات شرعية مستشهداً بلجوء الرسول لأهل المدينة، أصبح لا يتحدث سوى عن المؤامرة العالمية عن مصر ومهنية الإعلام المصري بالمقارنة بالإعلام الغربي.

من كان يمدح في أموال خيرت الشاطر الحلال أصبح يؤيد سحق الإخوان ومؤسس الحزب الناصري عام 1993 أصبح يؤيد حصار غزة.
يندهشون منه بعد الثورة.. لكن هل عرفتموه قبل الثورة؟

(7) 2014

عادة لا أشاهد لقاءات تلفزيونية.. لا أهتم.

لكن اليوم الأمر مختلف فرئيس التحرير المفتخر بشبابه وبقدراته البلاغية وبتصديه للسلطة يجلس أمام السلطة.

الموضوع لطيف والأمر يستحق المشاهدة.. يبدأ الحوار ويتحدث عيسى بتلقائية وفجأة يصدمه محاوره بجملة.

ــ مش حسمح لك مرة تانية تقول..
اللحظة التي انتظرها حانت.. تبرق عيني بشغف وفضول.

ينكمش عيسى بشكل يدعو للرثاء.. يبدو منسحقاً.. لم أكن أتوقع أن يتم الأمر بهذا السوء.. أتساءل أسئلة عميقة عن الحياة والنجاح والمهنية بينما يتساءل أحمد مطر سؤالاً أبسط قائلاً: «هل نبكي لكلب الصيد إن أودى به الصياد؟»

(8) 2014

بعد أيام.. يعود عيسى ليضرب من جديد..

لعبة التسعينيات الشهيرة.. انتقاد الحكومة والابتعاد عن من عينها.. يكتب مانشيت «منورة يا حكومة» ساخراً من أداء الحكومة في أزمة الكهرباء.. لكن هذا لا يروق للسلطة الجديدة.. فيقول ممثلها:

ــ يعنى ايه منورة يا حكومة؟.. إنت بتعمل إيه؟.. يعنى إيه تقول منورة يا حكومة؟ إنتوا مكنتوش متوقعين كده ولا إيه.

عندما انتهى الخطاب قررت متابعة أول حلقة بعدها لعيسى.. لم يعقب على ما قيل لكنه كان يتحدث في شيء ما آخر بانفعال.. أغلقت زر الصوت وأخذت أشاهده وهو يحرك يديه بحماس وسخرية مريرة..
وابتسمت.

(9) جملة اعتراضية

«مهما كان من قذارة الفأر فإن شكله في المصيدة يثير الرثاء»
نجيب محفوظ..

(10) 2014

للأمانة شهادتي مجروحة في عيسى.. لأننى ــ بمنتهى البساطة ــ لا أحترم مواقفه ولا ما يمثله.

لم تعد كتابات عيسى مؤثرة ولا جريدته شعبية.. لكن ما زال عيسى يحرك يديه بانفعال.. مازال يملك مرادفات كثيرة لنفس الكلمه.. مازال لديه جمهور..مازال يجمع المال.. ما زال يكتب عن كل شيء إلا عن السلطة التي طالما كان لا يكتب إلا عنها لسنوات.. وما زال طفل جارنا كلما ضربه أبوه يذهب لأمه ويصرخ فيها شاكياً بغضب وثورة ثم يدخل لينام.

المصدر:كسرة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *