أيمن الجندى يكتب | الكوة
أن تعلم. ألا تعلم. تفهم ولا تفهم سر كل هذا الحنين لأيام مضت. البناية العجوز ذات الطوابق الأربعة، ثم ذلك السلم المعدنى يسلمك إلى سطح البناية من خلال كوة صغيرة بحجم الطفل الصغير الذى كنته. تتسلقه فى مرونة قرد صغير إلى السطح المفعم بالحلم والأسرار. تصافح الريح وجهك وتتلقى برودة البلاط المفعمة بالمودة على ركبتك الملوثة بالميكروكروم، ثم تستقيم قامتك الصغيرة المضحكة لتبدأ مهام الملك ومسؤوليات الحكم.
الملك الوحيد. لا أحد ينازعك سلطانك على قبلات الشمس ورحلات الظل وأسطح العمارات. القباب والمآذن وصفحة السماء، وعلى وفرة أصدقائك لم تشرك أحدا فى حكمك المطلق لمملكتك المجهولة.
وها أنت ذا تعود بعد كثير من السنين وكثير من الجراح.
بيتك القديم تشغله الآن شركة كمبيوتر، والشرفة التى كنت ترقد عليها لتحصى النجوم ملوثة بالغبار، والجدران الخائنة تستقبلك كغريب. تعلم هذا أو لا تعلمه. تفهمه أو لا تفهمه. أنت ماض إلى مملكتك القديمة التى لم تخنك، هناك حيث تهب رياح الفصول الأربعة تفصلك عنها كوة صغيرة ويحملك إليها سلم معدنى صدئ.
فى المدخل كان باسم يلعب الكرة. يسددها صوب الحائط فترتد إليه ليعيد تصويبها فى حماس لا يملكه غير الأطفال. أول صديق فى حياتك. حينما ابتاع أبوك الكرة البلاستيكية الحمراء تفحصها فحص خبير ولم يطمئن قلبك إلا حينما ابتسم.
التفت نحوك، ابتسم فى ود حقيقى. صوب الكرة إليك منتظراً منك أن تبادله التصويب، لكنك لم تحرك ساكنا، وكيف تفعل ومشهد الوداع يلطمك؟ يوم فارق البناية إلى الأبد غير عابئ بدموعك وحيرتك. ظلت الكرة الحمراء مهجورة يعلوها الغبار بعده لم يطاوعك قلبك أن تلعب بها مع سواه. وأنسته لهفة الانتقال أن يتظاهر بالحزن حينما عانقته أمام السيارة التى تهدر فى انتظاره. تملص من أحضانك وهرع إلى سيارة ستنقله إلى المجهول اللذيذ.
وقفت ترمق الأضواء الخلفية لسيارة تبتعد وقد ضببت الدموع نظارتك.
تساءل فى دهشة: «ألن تلعب معى؟». هززت رأسك فى حزن، وخطوت فوق الكرة البلاستيكية الحمراء دون أن تمسها. ورحت تصعد.
فى الطابق الثانى رأيت أمك، شاحبة الوجه، مفعمة بالبياض. تلف طرحة الصلاة حول الوجه الطيب المستدير. تشتاق حضنها الدافئ وتود لو تلثم يدها الصغيرة كعادتك. تسألها عن أحداث حلقة الأمس التى فاتتك؟ ولكن كيف تغفر لها أنها خانتك حينما ماتت ذات صباح منذر بالويل؟ وكيف طاوعها قلب الأم أن تهجر هذا الابن الذى راح يقبل قدميها المثلجتين.
تتنحى عنها فى لطف لتصعد إلى الطابق الأخير لتجد أباك يهبط الدرج فى تثاقل. لشد ما كبرت يا أبى! تبدت الشيخوخة على وجه القاضى المثقل بآلام البشر! يتسلل الرفق إلى قلبك وتشعر بأنك تذوب من الرقة، وتود أن تقذف بنفسك فى أحضانه لكنك لا تفعل. تعتب عليه أنه حين سقاك الحنان مقطرا نسى أن يحذرك من وعورة العالم. تهمس له وأنت تتجاوزه: «تكسرت النصال على النصال يا أبى».
السلم المعدنى الصدئ يفضى إلى الكوة، والكوة تفضى لمملكتك القديمة، هناك حيث قبلات الشمس ورحلات الظلال. القباب والمآذن وصفحة السماء. تصعد الدرج المعدنى لكنك تنسى يا مسكين أنك قد كبرت. وأن الكوة ضيقة كرحم أمك حين تغادرها لا تستطيع أن تعود إليها.