أيمن الجندى يكتب | المخبول
لم تكن هذه هى أول مرة أذهب إلى صديقى الضابط فى محل عمله. بدا لى مكفهر الوجه كعادته كلما واجهته قضية صعبة. جريمة قتل نُشرت تفاصيلها فى الصحف، ولم يُعرف الجانى بعد. سألته عن الضحية، فقال: «تاجر سمعته ليست فوق مستوى الشبهات. ووقع الكثيرون ضحية نصبه، ولذلك يصعب تحديد الجانى لكثرة من نصب عليهم ويريدون الانتقام منه».
احتسيت فنجان القهوة وأردت أن أنصرف، لكنه طلب منى البقاء حتى يأخذ أقوال مشتبه به جاء للاعتراف بارتكاب الجريمة. وجدتها فرصة لا تُعوض لمشاهدة عالمه المثير. قال للشرطى آمراً: «احضروا سامى عطية من الحجز».
بعد دقائق دخل رجل فى الأربعينيات، قصير القامة، سيئ الهندام، زائغ النظرات. اقترب فى تردد وبدا أنه تفاجأ حينما رأى الضابط. حدجه فى غيظ قائلا: «أنت مرة أخرى؟». رد المتهم بصوت مضطرب: «جئت لأعترف». سأله فى نفاد صبر: «تعترف بماذا؟». قال فى انفعال: «بارتكاب جريمة القتل».
لم يغب عنى يداه المرتجفتان ولا اهتزاز شفتيه. وبدا لى أنه لم ينم ليلة الأمس. وهممت أن أنبه صديقى لذلك، ولكنى وجدته يسأله: «ولماذا قتلته؟». رد المتهم فى ثقة: «لأنه سيئ». قال الضابط ساخرا: «لو قتلت كل السيئين فى الأرض فلن يبقى على ظهرها أحد».
وسكت المتهم منكسا رأسه فى الأرض، وراحت ركبتاه تهتزان فى توتر. وبدا لى أن صديقى الضابط يتعامل بخفة غير مفهومة مع اعتراف المتهم.
ابتسم صديقى متفكها. قال وهو يتفحصه من رأسه إلى أخمص قدميه: «وكيف قتلته؟». قال المتهم فى اضطراب وهو ينظر إلى يديه المرتجفتين: «خنقته بيدى هاتين». ضحك الضابط ضحكة عصبية، ثم أمسك بيدى المتهم ووضعهما بجوار يديه العريضتين، فبدتا كيدى طفل، ثم قال متهكما: «خنقته بيديك الصغيرتين تلك ولم يقاوم برغم أنه أقوى منك بكثير!!». سكت المتهم متلعثما فأردف الضابط بازدراء: «طبعا عرفت من الصحف أن القتل تم خنقا. ولكن ما رأيك أننى سربت هذه المعلومة الخاطئة، والحقيقة أنه مات مقتولا بالرصاص».
رد متلعثما: «بعدها أطلقت الرصاص عليه». أربد وجه صديقى وقال بلهجة مهددة: «سامى يا عطية. أقسم برحمة أمى لو عدت مرة أخرى لأقتلك ضربا. أفهمت؟». لكن المتهم لم يتأثر وقال: «هذه المرة أنا قتلته والدافع موجود. الراجل ده نصب عليا قبل كده. قم بتحرياتك وستجد اسمى بين ضحاياه». اندفع صديقى الضابط صارخا: «إنت حتمشى ولا لأ؟ أنا مش فاضى لك». وضعت نفسى حاجزا بينهما وأمسكت بيديه متوسلا ألا يضربه أمامى. واصل المتهم صراخه: «أنا قاتل. أنا مجرم. يداى ملوثتان بالدم، وأنت ترفض أن تقوم بواجبك؟».
قال الضابط متعبا: «ارموه بره».
وانصرف ذلك المدعو سامى عطية. وبدوت كالمذهول من هذه الدراما. وشعر صديقى الضابط بأننى أستحق بعض التوضيح فقال: «سامى عطية مضطرب نفسيا. واحد من ضحايا المدينة التى لا ترحم. لا توجد جريمة قتل تنشرها الصحف إلا ويأتى معترفا بارتكابه الجريمة. أكثر من خمس مرات يتعبنا فى التحريات، ثم يتضح أن الأمر هراء».
خرج سامى عطية من القسم وهو يشوح بيديه ويهز رأسه. لكنه بمجرد أن ابتعد حتى اختفت علامات الاضطراب وابتسم لنفسه فى سرور. أخيرا آتت الخطة ثمارها وكُللت بالنجاح وانتقم من الوغد الذى نصب عليه دون أن يشتبه فيه أحد.