أيمن الجندى يكتب | بتلو
لا أذكر الكثير عن لحظة التكوين. ثمة ذكرى ضبابية لوجود فى عالم مظلم. أسمع دقات منتظمة لا أدرى مصدرها! لكننى معظم الوقت نائم فى سلام سرمدى دائم. وفجأة شعرت بتقلص عنيف من حولى. دخلت فى دوامة هائلة وشعرت بالخوف الشديد لولا هاتف راح ينفث فى روعى: «لا تخف! سوف تغادر رحم أمك الآن وتخرج إلى العالم الواسع».
خرجت برأسى وقوائمى الأمامية. وقتها سمعت خوار أمى وهى تئن. تحاول أن تُخرج الجسد المحشور، وبالكاد استطعت أن أنزلق بقوائمى الخلفية لأسقط على التبن الذى فرشوا به الحظيرة.
كنت ضعيفا منهكا من سفرى الطويل من عالم إلى عالم. وكانت أمى شاحبة مثل أى والدة وضعتْ لتوها. الروائح! كانت أول ما صافحت حواسى. هذا عالم غنى بالروائح أكثر من أى شىء آخر. كانت هناك رائحة السائل العالق بى! رائحة التبن! رائحة الحظيرة! وأهم من ذلك رائحة أمى. كانت العزيزة الصامدة ترقد على التبن تستعيد قواها. ثم ما لبثت أن تحاملت مثلما تفعل أى أم، مدتْ رأسها نحوى، لعقتنى بلسانها فى حنان أموى نادر. بدت سعيدة وفخورة وقوية ومنهكة. ثم ما لبثت أن راحت تحثنى على القيام. اندهشت جدا من حزمها فى الطلب. خاطبتها بعيونى اللعوب اللامعة: «أماه. لقد وُلدت للتو وما زلت ضعيفا جدا». لكن ماما راحت تلعق رأسى وتشدنى للقيام. لا بد أن أسبابا قوية تدفعها إلى ذلك. حاولتُ النهوض بقوائمى النحيلة فلم أتمكن. راحت ماما تشجعنى بكلام رقيق وتهمس لى أنها تحبنى. قالت إن الحياة جميلة وتنتظرنى. رقدتُ فى غيبوبة من الحلم اللذيذ وهى تصف لى المراعى الخضر والطيور البيضاء والقطط المقطقة! ووصفت لى الليل والنهار والنجوم والشمس والقمر. قالت: «يا عبيط لمن تترك هذا كله؟. انهض على قوائمك وسوف أساعدك». قمت وتعثرت. ثم قمت وتعثرت. ثم قمت ولم أتعثر. رحت أمشى على قوائمى الأربعة وقد تملكنى سرور شديد، ورحت أنظر إلى ماما فى فخر: «انظرى لى كم أنا جميل ورائع! لقد وُلدت للتو ومع ذلك فقد فعلتها». وراحت أمى تدور حولى فى رضا وتخور بصوت جميل وتلعق رأسى بلسانها. واقتربت منها حتى صرت تحتها ورحت أتلمس ضرعها بغريزتى، وأمى تنتظر راضية.
ما زلت أذكر حتى اليوم مذاق أول قطرة. تصور حليبا صنعته أمك خصيصا لوليد قادم من جوفها. تخيل كيف اعتصرت الحب والشغف والتوق وجعلته سائغا شرابه من أجلى أنا! حبيب ماما.
شربت حتى ارتويت وشعرت برغبة فى النوم. وهكذا أُضيفت إلى أحلامى رائحة التبن والقش ولعق أمى ومذاق اللبن. ما أعظم ثروتى من الذكريات وما أشد سرورى بالقدوم إلى الحياة.
استيقظت. جاء موعد الرضعة التالية. لم أجد أمى جانبى. وجدتهم يسقوننى لبنا ردىء الطعم! ومن أين لى أن أعلم –أنا العجل المسكين- أنهم يسقوننى حليب الأطفال المجفف؟ لمجرد أنه أرخص ومدعوم السعر، ويستولون على حليب أمى الذى خلقه الله لى خصيصا.
حاولت أن أمتنع لكن الجوع أجبرنى. وكنت أعزى نفسى قائلا إننى ما ألبث أن أكبر وأمضغ العشب الأخضر وأعيش حياتى بأكملها. ثم لم ألبث إلا قليلا ووجدت حد السكين على عنقى، وسمعت الجزار يؤكد على ضرورة الذبح قبل انتهاء الرضاعة! إذ مَنْ مِنَ الزبائن يستطيع أن يقاوم (البتلو)؟