أيمن الجندى يكتب | تالين
كردستان.
أوائل ربيع ١٧٣٢.
انتصف النهار، وبدأت «تالين» تشعر بالتعب من إرهاق السفر. كانوا قد بدأوا الرحيل قبل الفجر، بعد أن حزموا فوق البغال المتاع الضرورى للرحلة، ومن بينها الهدايا التى جلبوها لـ«خوزيك» العروس المرتقبة لشقيقها الأكبر. وتتابعت المشاهد الطبيعة لجبال كردستان شاهقة الجمال، وبقايا الثلج الذى يكسو القمم. لكن «تالين» كانت فى شغل عن هذا كله. رأسها الصغير ازدحم بهموم أودت بسلامها النفسى. الشقاق الذى نشب مؤخرا بين عائلة أبيها وعائلة أمها، ضيق الرزق بعد أن اشتدت حملات وإلى بغداد على أطراف كردستان، الشرخ الذى راح يتسع بينها وبين بعلها شيروان.
زفرت تالين فى ضيق، وتمنت فى لحظة لو كان ممكنا أن تترك هذا كله وتعود القهقرى. حين كانت صبية صغيرة لا تحمل هم شىء، تقضى معظم النهار فى صحبة منتقاة من أبناء القبيلة. لم تكن قد أحبت شيروان بعد، ولا نفث الربيع سحره الأخضر فى قلبها.
وأخيرا جاء صوت أبيها يأمرهم بالتوقف. تنهدت تالين الصعداء وهبطت من فوق البغل فى سلاسة. ووقفت تعاون أمها التى أثقلها الشحم على الهبوط من فوق الدابة. واجتمعت العائلة بأسرها على مائدة الطعام التى فرشوها جوار العشب. ووُضعت صحون العسل والزبد الطرى واللبن الرائب. وراحوا يأكلون بتؤدة ويتسامرون خلال الأكل. وتذكرت فجأة أن بعلها شيروان تهرب من حضور زفاف أخيها. وسالت دمعة لم تستطع أن تكتمها. وصعدت عصارة حامضية حارقة جعلتها تتوقف عن الأكل. نهضت من المائدة وانسحبت بلطف. وأسعدها أن أحدا لم ينتبه إلى ابتعادها. وأسرعت الخطا قبل أن تلحظها أمها وتنادى عليها. وأطبقت على صدرها الناهد هموما شتى. هل تغير شيروان لأنها لم تنجب بعد؟ أم لأن الاعتياد قد أودى بسحرها؟ انتهى الشغف من عينيه منذ أن نالها وفرغ منها. فهل لا بد من الحرمان المتصل كى يدوم الحب؟
راحت تالين تتجول فى الطريق الملتف حول الجبل وتناجى أشباحها القديمة. حملتها قدماها دون أن تدرى إلى ركن معشوشب بالخضرة والأزهار البرية. وهبت ريح باردة تحمل أنفاس الشتاء المنصرم. وتوثب الربيع القادم ينفث أخلاط الزهور فى سحابة من العطر. شعرت تالين بانتعاشة وكأن فرجة صغيرة لاحت فى غموم القلب. وراحت تتأمل ما حولها بشغف. وسطعت شمس لطيفة بين الغيوم، فزايلتها الوحشة وحل الأنس والحب. واقتربت فى حذر من صخرة تطل على هاوية. تطلعت إلى المدى الأخضر فجذبها بفتنة طاغية. ثم رفعت رأسها إلى السماء فأذهلها ما رأت. كانت السماء منبسطة بزرقة صافية، وكأنما ذوّبت فى رزقتها كل جواهر العالم. وأحست تالين أنها مغموسة فى نبع مبارك. وأنها تعلو فوق الهموم وتسمو فوق العالم. وأن كل همومها لا شىء بجوار السماء المنبسطة.
ستظل تالين حتى آخر العمر تذكر هذه اللحظة. فلأول مرة فى حياتها تشعر بحجمها الضئيل أمام الكون. ولأول مرة تنطبع بمعنى الأبدية. مجرد فتاة كردية، فى قرية نائية، عام ١٧٣٢، ترنو إلى الدنيا من أعلى جبل. وفى الدنيا الشاسعة ملايين القلوب الحائرة التى تظن أنها محور العالم. وراحت تتصور الدنيا بعد مائة عام ولم يعد يعرفها أحد. يا للحياة من حلم قصير مذهل! يا لها من أحُجية مُحيرة! نأتى ونذهب وتبقى السماء الرزقاء الصافية على اتساعها، شاهدة على ضآلتنا، ساخرة من همومنا.