بدأ الأمر حين جاء البروفسور الذى يعتنى بى! أهو أبى؟ كل الأطفال لهم آباء باستثنائى أنا. الأطفال لا يفهموننى. لا يجعلوننى أشاركهم ألعابهم! يتوقفون عن الحديث بمجرد اقترابى.
كان يرتجف. لابد أن الطقس بارد برغم أننى لا أشعر بذلك. هو أيضا لاحظ نفس الشىء عنى. سألنى وهو يضغط على مخارج الحروف كعادته: «تال. أنت لا تشعر بالبرد! أليس كذلك؟».
هززت رأسى نافيا، قال وأسنانه تصطك: «لعلك لاحظت تراكم الجليد الأبيض! لعلك لاحظت أن الأطفال لم يعودوا يلعبون فى الحدائق!»
استطرد وهو يتأمل وجهى: «تال. ألم تتساءل يوما عن مغزى اسمك! ألم تلاحظ أنك مختلف فى ملامحك عن الأطفال الآخرين؟». نظرت نحوه فى حيرة. فشدنى نحو المرآة وهو يقول لنفسه: «فليكن الله فى عونى. حانت لحظة الحقيقة».
قال البروفسور فى رفق: «انظر إلى وجهك فى المرآة يا تال». ونظرت إلى الوجه الذى يطالعنى! منخفض الجبهة، قصير القامة، برميلى الأطراف. استطرد البروفسور: «سأحكى لك حكاية أقوام عاشوا على هذه الأرض منذ مائتى ألف عام. كان المناخ وقتها جليديا، ولكنهم استطاع التأقلم مع البرد بسبب طبيعة أجسادهم. سمحت أجسامهم القصيرة الممتلئة على بالمحافظة على حرارة أجسادهم فى البرد الشديد. لا نعرف الكثير عنهم. ولكن ما نعرفه أنهم كانوا يتمتعون بذكاء ما. ارتدوا الملابس واصطادوا الفرائس واستخدموا الآلات. لكن لم يظهروا الوهج الإنسانى وقدرته على استخدام الرموز. انتشروا فى أوروبا وغرب أسيا لمدة مائتى ألف عام. ثم بدأوا ينقرضون بالتدريج. آخر معاقلهم كانت فى شبه جزيرة أيبريا، البرتغال وأسبانيا حاليا. تزامن ذلك مع قدوم الإنسان الحديث. بعدها انقرضوا تماما؟ فهل دارت بينهم حروب فناء؟ أم أنها المجاعة؟ أم وباء مجهول؟»
وصمت البروفسيور قليلا، وحدجنى بعينيه الزرقاوتين النفاذتين ثم قال: «ظننا أنهم انقرضوا للأبد! لكن العلماء استطاعوا الوصول إلى الجينوم الخاص بهم، وبذلك تم استنساخ نسخ من إنسان نياندرتال، إنه أنت يا (تال)».
ونظرت نحوه فى حيرة. كان ما يخبرنى به أكبر من قدرتى على الاستيعاب، لولا أنه استطرد: «تمر الأرض كل مئات الآلاف من السنين بعصور جليدية. كنا نتصور أن الأمر يتم بالتدريج، ولكنه حدث فجأة. يتوقع العلماء أن الأرض فى غضون أسابيع قليلة لن تصلح مكانا ملائما لسكنى البشر بعد أن يسود البرد الشديد. لذلك قررنا أن ننقلك إلى أرض أجدادك فى شبه جزيرة أيبريا، مع باقى النماذج المستنسخة. إنتم يا تال أقدر على احتمال البرد، ولعلكم تعيدون الكرة حين ننقرض، وتصبحون آباء البشر، وتعيدون الإنسان من جديد.
المجد للون الأبيض. بأقدامى الحافية المفلطحة أسير على الجليد. لا توجد حولى مظاهر للحياة. المنازل مهجورة، والبشر ماتوا. لم يتحملوا البرد الشديد. استنشق الهواء المثلج الممتع. أسير على أرض أجدادى، شبه الجزيرة الأيبيرية، تخرج الذكريات من مكمنها، ذكريات تعود إلى مائتى ألف عام مضت. حين سيطر أجدادى على قارة «أوراسيا» بأكملها. انتشروا عبر السهل الأخضر. أتذكر القنص، وحيوان وحيد القرن، واجتماعنا حول النار. أتذكر الإنسان الحديث الذى جاء ليمحونا من وجه الأرض، بقامته الطويلة وملامحه الوسيمة وجسده الرشيق. أليس عجيبا أن هذا الإنسان أمات أجدادى واستنسخنى أنا، «تال» الآتى من حفائر الأجداد، حفيد البشر، أبو الإنسان، حامل الأختام، القادم من الماضى السحيق.