أيمن الجندى يكتب | علبة التونة
شارع «الحلو» مزدحم كما هو العادة. ترى هل يمر محافظ الغربية ها هنا؟ هل يشاهد الأسفلت المهشم والطريق الضيق، رغم العمارات الشاهقة التى ارتفعت فجأة فى السنوات الأخيرة، وأكوام القمامة، التى لا تجد من يرفعها، تنافس العمارات فى الارتفاع؟! مرافق متهالكة. شوارع متهالكة. بلاد متهالكة. والتعاسة مرتسمة على وجوه المارة. البؤس والعذاب وقلة الحيلة. وثمة زحام على مرمى البصر وسرينة الشرطة تثقب الآذان. ترى ما الذى يحدث هناك؟
وعلى حافة الرصيف يجلس عجوز أبيض الشعر بشكل لافت، مترب الملابس، ينظر إلى الزحام فى غير اكتراث. سألته «ماذا يحدث يا حاج؟». وبدون أن ينظر نحوى أجاب: «الإخوان. مظاهرة من شباب الإخوان». وسعلت حين استنشقت رائحة الغاز! وبدأت أبتعد فى قلق، مستحثا العجوز أن يلحق بى. لكنه ظل جالسا فى مكانه، وقد بدا عليه التعب. قال وكأنه يكلم نفسه: يتجمعون للهتاف كل مساء، ثم تأتى الشرطة فيتفرقون حين تطلق قنابل الغاز. وهكذا كل ليلة. وهتفت مندهشا: «كل ليلة!».
وشرعت أتأمله، نموذجا للشقاء الآدمى. كانت عيناه حائرتين، وكأن هناك شيئا لا يفهمه، وعلى حافة أنفه نظارة ذهبية، أو كانت ذهبية قبل أن يذهب لونها، مع رجفة لا إرادية فى يديه. قال فجأة، ودون أى مناسبة: «كانت علبة التونة بأربعة جنيهات واليوم صارت باثنى عشر جنيها!». ولم أفهم العلاقة بين المظاهرات وعلبة التونة، وشعرت أنه ذهب بعيدا. كان الزحام قد خف بالتدريج، والمظاهرة قد تفرقت، وابتعدت سيارة الشرطة، وبدا لى الليل مرهفا وهادئا، وكأنه ينطوى على خلاصة الأحزان.
سألته: «ماذا تعمل يا حاج؟». قال ويداه تزدادن ارتجافا: «كنت أعد الشاى والقهوة فى شركة خاصة. الأستاذ محمود الله يكرمه تغاضى عن عمرى. إننى فى الواحدة والسبعين. من يقبل بى؟». ورمقت فى إشفاق يديه المرتجفتين، وتساءلت داخلى: هل يستطيع التحكم فى صب السوائل الساخنة داخل الأكواب؟ بل كيف يحمل الصينية؟ وعاد يقول دون مناسبة واضحة: «وكانت علبة التونة بأربعة جنيهات!».
ضحكت فى عصبية، ولم أستطع أن أمتنع عن التساؤل: «إشمعنى التونة اللى إنت مهتم بيها؟». قال فى خطورة: «أشرف يحتاج البروتينات كى يبنى جسده. واللحم والدجاج بالشىء الفلانى». قلت متلطفا: «أشرف ابنك؟ ربنا يخلى». قال فى حنان: «رزقنى الله به على كبر بعد أن يئسنا من الإنجاب. أستاذ محمود- الله يستره- تفهم ظروفى وفضلنى على الشباب الصغير».
سألته: «ولماذا تجلس هنا؟ هل انتهى وقت الدوام؟». ارتجفت يداه دون أن يلاحظ، وهو يقول: «الشركة ساءت أحوالها ورفدونى مع كثير من الموظفين». قلت فى ألم: «لا حول ولا قوة إلا بالله. منهم لله». قال فى اهتمام مفاجئ: «هم مين؟». قلت وأنا أفكر فى المسؤولين عن تعاسة هذا العجوز: «كلهم يا حاج. من أوصلونا لهذا الحال. سواء النظام أو الإخوان. كلهم منهم لله». بدا وكأنه لم يفهم كلامى: «أنا لم أرتكب ذنبا. كنت فقط أعد الشاى. الله يكرمه أستاذ إبراهيم». سألته فى اندفاع: «طيب، ولماذا لم يتوسط لك الأستاذ إبراهيم كى يبقوك فى الشركة؟». رد ببساطة: «اترفد هو كمان».
ضحكت فى عصبية، وبدأت فى التحرك. سألنى دون أن ينتظر ردا: «تفتكر علبة التونة ممكن ترجع بأربعة جنيه؟».