مجموعة سعودي القانونية

أيمن الصياد يكتب | تحت قبة الجامعة .. قلقٌ مشروعٌ على «المستقبل»

أيمن الصياد يكتب | تحت قبة الجامعة .. قلقٌ مشروعٌ على «المستقبل»

ايمن الصياد

بالضبط كما يخطئ الذى يظن أن بالإمكان «استنساخ» زمن عبدالناصر، يخطئ الذى يظن أننا نعود إلى زمن مبارك. أخشى أننا نبدو وكأننا اخترنا أسوأ ما فى كل زمان لنأتى به إلى زماننا هذا.

عندما نقلت لنا الأخبار ما جرى فى الجامعة، أو بالأحرى ما جرى «للجامعة» من قوانين وقرارات تخلع عن الجامعة واقعيا صفتها الأكاديمية، كما تلغى كل ما كان من جهود لجماعة ٩ مارس التى شارك أبرز أعضائها فى التمهيد لما جرى فى ٣٠ يونيو، يصبح هناك ما ينبغى أن نتوقف عنده لنقلق.. أو ربما لأكثر من ذلك.

تقول الحكاية إن جاليليو جاليلى Galileo Galilei وهو عالم فلك وفيلسوف وفيزيائى إيطالى فضلا عن كونه كاثوليكيا متدينا، أعلن بداية القرن السابع عشر الميلادى تأييده لنظرية نيكولاس كوبرنيكوس Nicolaus Copernicus التى تقول بأن «الأرضَ تدور حول الشمس» مخالفا بذلك رأى «السلطة» الرسمية الممثلة يومئذ «فعليا» بالكنيسة ورجالها. يومها حوكم جاليليو بالهرطقة، وأحرقت كتبه، وتعرض لاضطهادٍ اضطره للصمت فيما بدا تراجعا عن أفكاره.

ماذا تقول لنا بقية الحكاية؟

واقعيا، ورغم صمت جاليليو، وسطوة السلطة الكنسية ظلت «الأرض تدور حول الشمس». وتاريخيا، لم تعرف أوروبا طريق النهضة الفكرية والعلمية الحقيقية إلا عندما تطهرت من «محاكم التفتيش»، وعرفت أن المقدس الحقيقى ليس فيما يردده هذا أو ذاك. وإنما فى حرية الفكر والبحث العلمى، وهو ما أنتج بعد ذلك مصطلح «الحريات الأكاديمية» والذى بات عقيدة لأى معهد علمى أو جامعة تريد أن يكون لها بحق أن تسمى «جامعة».

تذكرت الحادثة عندما نقلت لنا الصحف أن جامعة مصرية أوقفت منح درجة الدكتوراه لباحث كانت اللجنة «العلمية» التي ناقشته قد منحتها له مع مرتبة الشرف. والأدهى أن بيان الجامعة يعزو قرارها إلى عبارات وتوصيفات وردت فى بحث الطالب (من الواضح أنها لا تتفق مع الرؤية السياسية لأولى الأمر والنهى) ثم لم يخجل مصدرو البيان من التصريح بأنهم قرروا «إحالة الأساتذة المشرفين على الرسالة إلى التحقيق العاجل، وإيقاف الدراسات العليا بالكلية (الآثمة) وتشكيل لجنة لمراجعة جميع الرسائل الحالية»، (وكأنه الخوف من أن يكون قد تسرب إلى إحداها تعبير يزعج ولاة الأمر).

للمقارنة فقط، تقول أخبار «عالم آخر» إن جامعة دوسلدورف الألمانية سحبت درجة الدكتوراه من «وزيرة التعليم» الألمانية التى كانت قد حصلت عليها قبل ٣٤ عاما كاملة. السبب وهو الأهم، لم يكن محاباة لسلطة، أو اعتراضا على ما كانت قد ذهبت إليه السيدة من رأى فى أطروحتها، وإنما لانتهاكها القواعد «الأكاديمية» المرعية بانتحال / سرقة أجزاء فى رسالتها دون الإشارة للمصدر.

فى الحالة المصرية المشار إليها، لم أشأ أن أذكر اسم الجامعة أو الباحث أو الأساتذة المشرفين، أو حتى رأى الباحث الذى تسبب فى حرمانه من الدرجة العلمية (بقرار إدارى)، فكل ذلك يبقى فى باب التفاصيل. قد نتفق أو نختلف مع ما ذهب إليه الباحث أو فرضياته العلمية، ولكن البدهيات الأكاديمية تعرف ما يسمى «بحرية البحث العلمى» كما تعرف قصص التاريخ أن الغرب لم يعرف طريقا إلى العلم والتقدم والنهضة، إلا بعد أن تطهر من «محاكم التفتيش» ومن سطوة السلطة على معاهد العلم والبحث. وإلا لكنا مازلنا نعتقد بأن الأرض مسطحة وأن الشمس تدور حولها (!)

•••

لم يمض أسبوع على «قصة شهادة الدكتوراه»، حتى كان أن ذهب رئيس الجمهورية «لمحراب» الجامعة المصرية الأولى لتكريم متفوقى الجامعات. وهو أمر محمود بلا شك. فليس أكثر من العلم استحقاقا للتكريم. ولكن ما تناقلته الأخبار والروايات عن بعض التفاصيل، يبقى أيضا فى باب ما يحتاج أن نتوقف عنده ونحذر من دلالاته ومعناه. سمعت كلاما كثيرا ومرارات أكثر. ولكنى احتراما لأمانة المجالس، أكتفى بالإشارة إلى ما كتبه الدكتور مصطفى كامل السيد، وهو أستاذ بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بالجامعة، كما أنه لا يمكن بحال أن يوصف بالتهمة السهلة الرائجة «الانتماء للإخوان»: على صفحته على Facebook أشار الأستاذ الجامعى إلى «تفاصيل» كنت أرجو ألا تكون صحيحة، لولا تعدد الحكايات والرواة. وربما أكثر ما أقلقنى هو إشارته إلى أن من بين أوائل الكليات «الفعليين» من لم يتم تكريمهم!

•••

الشهادات ذات الصلة بما يجرى فى الجامعة، وبالمناخ الذى ستبدأ فيه الدراسة كثيرة. فإلى جانب ما روى عن قرار بفصل الطالبة المتفوقة رشا عبدالسميع «الأولى على دفعتها» من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، يحكى لنا د. عمرو الشوبكى (ولا أظن أحدا سيحسبه على الإخوان) قصة عضو هيئة تدريس بإحدى الجامعات المصرية جرى اعتقاله عشوائيا من حرم الجامعة، وبواسطة شرطى يرتدى ملابس مدنية (وهذا بالمناسبة مخالف للقانون)، وبعد أن مكث فى المعتقل قرابة الشهرين جرى اتهامه بالتهم الست عشرة (إياها) بدءا من حرق مدرعتى شرطة وليس نهاية بسرقة سلاح ميرى. حظ الرجل كان أفضل من غيره، إذ أفرج عنه بكفالة، ليسافر فى نهاية المطاف إلى ألمانيا لاستكمال دراسته بوصفه، من وجهة النظر الألمانية كما المصرية من أفضل ١٣ باحثا شابا فى تخصصه.. أتراه سيعود ليواجه مصير الاتهامات الستة عشر؟ لا أعرف. ولكن مقال الشوبكى يعرفنا بأن «زنزانة الأكاديمى الشاب» كانت مزدحمة بالمتفوقين من طلاب الطب والهندسة وغيرها.. وتكتمل الصورة الهزلية عندما نعرف أن بعضهم كان نشطا فى تأييده لـ٣٠ يونيو (!) «لو ضاع مستقبل هؤلاء الطلاب فسيكونون قنابل موقوتة ضد الوطن، بعد خروجهم، ولن يستطيع أحد أن يلومهم» والنص بين علامتى التنصيص من مقال د. الشوبكى فى «المصرى اليوم».

•••

فى الملف المرتبط بعقل هذا البلد كما بمستقبله (بحكم الموضوع: «العلم» والمرحلة العمرية: «الشباب») صفحات فى الجريدة الرسمية وفى الصحف اليومية نقلت لنا مشروعات أو نصوص قرارات بقانون (يصدرها الرئيس / المشرع فى غيبة البرلمان المنتخب) من بينها ما يعطى لرؤساء الجامعات «الذين يعينهم» السلطة المنفردة لفصل الأساتذة والطلاب. وذلك بعد أن كان قد أصدر قرارا بالعودة إلى نظام تعيين القيادات الجامعية، بدلا من «انتخابهم ديموقراطيا».

القرارات علقت عليها جماعة ٩ مارس فى بيان نشره أحد أعضائها، د. مصطفى كامل السيد على صفحته (تجاهلته الصحف).

يشير البيان المطول إلى خطورة ما ورد فى مشروع القانون من عبارات «فضفاضة وغير محددة» وإلى تعارضه مع الدستور فى أكثر من موضع، منها أن «لا عقوبة إلا بحكم قضائى» (المادة ٩٥)، ومنها أن «المتهم برىء حتى تثبت إدانته فى محاكمة قانونية عادلة، تُكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه» (المادة ٩٦) بينما ينص التعديل على جواز توقيع عقوبة العزل من الوظيفة بمجرد توجيه الاتهام دون محاكمة، بل دون حتى الاضطرار للتحقيق.. ثم يمضى بيان الأساتذة ليقول «إن هذا التعديل وما سبقه من تعديلات للقانون خلال العام الماضى يأتى ضمن مناخ عام تتوجه فيه السلطة التنفيذية للتعامل مع الجامعات تعاملا أمنيا صرفا، بينما الجامعة هى فى الحقيقة الذخر الوطنى الذى يجب الحفاظ عليه وتركه خارج الصراعات الآنية وإتاحة أفضل الظروف لازدهار الحوار والفكر الحر داخله ليلمع ذهبه فيشع على الوطن معرفة تنتج وتنمى وتحمى».

•••

وكأننا ندور فى الحلقة المفرغة ذاتها. الحكايات والروايات والقرارات ذكرتنى بجلسات «تأريخ» مطولة جمعتنى بالراحل النبيل رءوف عباس، وهو واحد من جيل من الأكاديميين «المصريين» العصاميين العظماء، (الذى كان آخر من فقدناه منهم الأديب حامل الدكتوراه فى الترجمة وعامل مصبغة النسيج السابق الراحل المثقف فيصل يونس).

بعض حكايا تاريخ رءوف عباس «الصريحة» ضمنها كتابه «مشيناها خطى»، وهو يحكى فى بعضه كيف أفسد النظام الحاكم «وقبضته الأمنية» الجامعة. وهى حكاية أو حكايات تستحق أن نتذكرها ونحن نتابع هيستريا العصف بما تبقى من قيم جامعية أكاديمية. كما أنه، وإن كان ما تبقى من مساحة هذا المقال لن تتسع لذكر تجربة الراحل النبيل، إلا أنها قصة تستحق أن نعود إليها فى مقال قادم لنتعلم من التاريخ والتجربة كيف علينا «ألا نكرر الأخطاء ذاتها».

•••

وبعد..

فصحيحٌ أن احتجاجات الأسابيع الأولى من العام الدراسى الماضى كانت مقصورة على الإخوان، ولكن صحيح أيضا أن أعداد المشاركين فى التظاهرات لم يكن يتجاوز العشرات حتى سقط «محمد رضا» طالب الهندسة فى نوفمبر ٢٠١٣ (التقرير الطبى المستقل عن أسباب وفاته)

أكرر: صحيحٌ أن الإخوان كانوا وراء احتجاجات الخريف الماضى، ولكن صحيح أيضا أن الأمر الآن جد مختلف. فكثير من النار تحت الرماد «وفى القلوب». وكثير من الرفاق والأصحاب مفصولون أو محرومون من الالتحاق بالمدن الجامعية إن لم يكونوا قد التحقوا بالسجون. باختصار: كثيرٌ ممن تظاهر فى ٣٠ يونيو ضد ما اعتبره «استبداد سلطة»، يرى أسباب احتجاجه الآن حاضرة، إن لم تكن أكثر إلحاحا. وتجاهل البعض لهذه الحقيقة لن يختلف كثيرا عن تجاهل كرادلة الفاتيكان فى القرن السابع عشر لحقيقة أن الأرض تدور حول الشمس.

………………………..

………………………..

فعسى أن يخلع مرضى «الإخوانوفوبيا» نظاراتهم الداكنة ليروا الأمور أكثر وضوحا، أو بالأحرى ما لا يريدون أن يروه. وعساهم أن يعودوا إلى مقالات الأساتذة محمد حسنين هيكل وأحمد بهاء الدين وعبدالوهاب المسيرى وجمال العطيفى عن مظاهرات الطلبة (١٩٦٨ و١٩٧٢ و١٩٧٧) أو أن يقرأوا أمل دنقل «الكعكة الحجرية» أو حيثيات الحكم فى قضية ١٨ و١٩ يناير ١٩٧٧ (انتفاضة الخبز أو «الحرامية» سمها ما شئت)، وكذا ما كتبه المستشار عبدالغفار محمد من حيثيات لحكم قضية الجهاد الكبرى. كما بإمكانهم، إن أرادوا تفصيلا أن يعودوا إلى كتاب الراحل النبيل أحمد عبدالله رزة «الطلبة والسياسة فى مصر» (صادر عن المشروع القومى للترجمة ٢٠٠٧، وهو أصلا دراسة أكاديمية نال بها صاحبها درجة الدكتوراه من جامعة كمبردج).

عساهم يقرأون كتبًا أو تاريخًا.. أو حقائقَ واقع، فيحسنون التشخيص، ويفهمون «أبناءهم»، ويدركون أن القصة لم تعد «قصة إخوان» وفقط إلا فى خيالهم، وإعلامهم «الأمنى» المريض. رحم الله رءوف عباس وأحمد عبدالله رزة، والذى أحسب أن كتابيهما يستحقان مزيدا من الضوء فى مقالات قادمة.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المصدر:الشروق