في أيام خنيقة كهذه يجبرني حبر المطابع الذي تقاسمناه سويا طيلة السنين الماضية أيا كان عددها بالنسبة لك، أن أنصحك صادقا مخلصا بأن تدأب على تذكير نفسك آناء الليل وأطراف النهار بأن البؤس العقلي وباء مثل الإنفلونزا الآسيوية والسعال الديكي والطاعون البقري، إذا حل بوطن فقد يحل بأي من أبنائه حتى لو كان من الذين يتقدمون صفوف محاربة البائسين عقليا، فيضطر عندها لإخفاء الحقيقة المرة عن الجميع، حقيقة أنه يحارب البؤس العقلي وهو مصابٌ به.ما العمل إذن؟، حاشا لله أن أدعي لنفسي أن أعراض التنمية البشرية ظهرت عليّ فجأة، فليس ما أقوله لك الآن سوى محاولة لأن أعطيك وصفتي الخاصة التي وجدتها فعالة في أغلب أيام الأسبوع بإستثناء يوم الثلاثاء لأسباب تتعلق بموقفي التاريخي من هذا اليوم، والذي يتلخص في عدم فهمي لفكرته ومغزى وجوده.
وصفتي لمكافحة الإصابة بوباء البؤس العقلي هي ببساطة: أن تعمل أولا على تقوية مراكز الملاحظة والتفكير، و»توطية» مراكز الرغبة في تغيير آراء الآخرين إلى أدنى درجة ممكنة.
ستكون محظوظا إذا أدركت مبكرا أن الحوار مع مصاب بالهستريا الفكرية أو السياسية عبث لن ينتج عنه في أحسن الأحوال إلا اصابتكما معا بالإرهاق، إن لم يؤد إلى نتائج أفدح كأن تلتقط منه عدوى الهستيريا، وهي في رأيي المتواضع أشد الأمراض قابلية للعدوى. صدقني كما يقول الفرنجة أنا الآن جادٌ كنوبة قلبية عافاك الله، ولذلك تعال نفكر سويا في الأمر بروية: هل خطر في بالك لماذا يقومون بعزل المصابين بأي وباء بيولوجي خطير إذا تفشى في بلد ما برغم ما في ذلك العزل من مرارة تصيب المعزول والمعزول عنه؟، ينبغي أن يكون الحال كذلك مع الهستيريا الفكرية والبؤس العقلي فهما أيضا وباءان فتاكان لا حل معهما إلا أن تنعزل عن المصابين بهما، لأن محاولة التطوع بالإشتباك الفكري مع المصابين بهما لتغيير آراءهم في الحياة والكون ليس سوى «عَبَط رسمي»، يشبه تماما فكرة أن تكون واقفا إلى جوار شخص رمى نفسه للتو من الدور «التمنتاشر» وبات ينتظر الموت أو الإسعاف أيهما أقرب، فإذا بك تقترب منه وتذكره بقول إيليا أبو ماضي
«أيها الشاكي وما بك داء كن جميلا تر الوجود جميلا»، وهي أيا كانت دوافعها الطيبة لن تجني منها إلا أن تكون سببا في آخر سيئة يكسبها المنتحر، لأنه حتما ولزما سيذكر الفاضلة أمك بكل سوء وستجيئ لها بشتيمة لا تستحقها حتى لو كانت لم تفلح في تربيتك على أبسط حقائق الحياة «بص لمستقبلك».هل هذه دعوة لإعلان الهزيمة والتخلي ساعة زحف وباء البؤس العقلي على الوطن؟، أعلم أنك ستذكرني بالأمر الشرعي بعدم الفرار من الأوبئة، لأن الإنسان سيفر حينها من قدر الله إلى قدر الله، أنا على العكس أدعوك للمقاومة لكن أنصحك فقط باختيار السلاح المناسب، وهو في ظني ليس سوى سلاح السخرية، فهو سلاح إستراتيجي وفعال ورخيص التكلفة أيضا، لكن من شروط فعاليته ألا تدع سيف السخرية يفارق يدك أبدا، وأن تضرب به في كل إتجاه، وتضرب به الجميع، بما فيهم نفسك، لأن إستخدام سيف السخرية في ضرب أعدائك فقط يفقده فاعليته، ويصيبك مع الزمن بنوع نادر من البؤس العقلي يجعلك تتصور أنك أرقى حالا وأفضل مآلا ممن تسخر منهم ليل نهار، وأنك أصبحت تمتلك الحقيقة المطلقة التي حاربتهم أصلا لأنهم يدعون إمتلاكها، وبذلك تكون قد تحولت دون أن تدري إلى نسخة مطابقة وربما أكثر تشوها ممن تعاديهم، وهو ما يثبت مع الزمن صحة قول العم اللعين نيتشه الذي حذر مرارا وتكرارا كل من يحارب الوحوش من أن يتحول مع الوقت إلى وحش.
كل هذا كان أولا، أما ثانيا فعليك يا أخي الكريم أن تحرص على عدم قطع علاقتك اليومية والدائمة باشتهاء الطيبات، لأن ذلك سبيلك الوحيد إلى تذكر أنك لا زلت حيا، حتى وإن كنت حيا لا تُرزق بكل ما تتمناه أو بأي مما تتمناه. صدقني عندما تفقد قدرتك على الإشتهاء لن ينفعك في المستقبل القريب ببصلة أن صوتك كان عاليا طول الوقت، أو أن موقفك كان دائما سليما أو أنك كنت تحارب على الدوام المعركة الصح، فما فائدة أن ينتصر الفريق الذي تحارب في صفوفه إذا اكتشفت في نهاية المطاف أنك تحولت إلى جثة؟، لذلك أرجو أن تتذكر دائما أن إستمتاعك بالنصر إن جاء النصر، يتوقف أصلا على بقائك حيا تشتهي وتُشتهى، فلا خير في نصرٍ يأتيك وقد فقدت قدرتك على الضحك والطرب والتذوق والنشوة، وكل هذه أمور تفقد كفاءتك فيها مع الخمول والإنقطاع، فالعلم بالتعلم، والشهوة بالإشتهاء، والنشوة بالتنشّي، والعظمة لله والتناكة لقوم آخرين أنت تعلمهم.هذا وأوصيك ونفسي ثالثا وأخيرا بالحرص على تناول المكسرات خصوصا عين الجمل ليس لأنها تقوي الذاكرة فقط، بل لأنها تقوي أيضا مناعة الخصيتين، وقد «اختصصتهما» دون غيرهما من أعضاء الجسم لأن آلامهما هي أشد وأقسى وأخطر ما يتعرض له الفرد في مجتمعنا المعاصر سواءا كان ذكرا أو أنثى،
ولا أدري لماذا يثير ذكرهما حفيظة بعض المحافظين المتحفظين برغم أن أحدا منهم لا يمكن أن يجادل في أهميتهما ودورهما في بقاء النوع البشري، أو أن يشكك علميا في أن من يحافظ «عليهما» حتى النهاية سالمين غانمين سيبقى، ومن يفرط فيهما سيفنى وتفنى معه أفكاره وإن كانت نبيلة وأحلامه وإن كانت جميلة، ولعلك إن استهنت بما أقوله لك الآن تلجأ إلى مراجعة معلوماتك التشريحية سريعا، وعندها ستلاحظ أن حباية عين الجمل قبل «فقئها» تشبه الخصية وبعد فتحها تشبه المخ، فلعل ذلك ينبهك إلى أن تأخذ حذرك من تعريض نفسك لما يمكن أن يؤدي إلى فقع تلك المنطقة الحساسة الغالية لأن ذلك سيؤدي حتما ولزما إلى «فتح البطن»، عافانا الله وإياكم من الفقع والفتح معا.أو كما قال مولانا عادل إمام «كل واحد يخلي باله من لغاليغه»، مشيها لغاليغه.(نشر في مايو الماضي في (المعصرة) ويصدر قريبا ضمن كتاب (سفاسف الأمور) عن دار الشروق بإذن الله)
المصدر : جريدة الشروق