مجموعة سعودي القانونية

بلال فضل يكتب | نظرة هادئة لمشهد ملتهب

تراجع قليلا إلى الخلف وحاول أن تتأمل المشهد الملتهب بهدوء. إياك أن تظن أن مايدور على ساحته من معارك وصراعات وخلافات هو أهم مافيه، فالحقيقة أن الأهم والأخطر والألعن هو مايدور خلف الكواليس، واللاعبون خلف الكواليس ليسوا محليين فقط كما يبدو على السطح، بل هم لاعبون إقليميون ودوليون يمثلون أجهزة إستخبارات ونخبا إقتصادية مهيمنة وشبكات مصالح كان حسني مبارك يحميها طيلة الثلاثين عاما الماضية، وجميعهم الآن يطلبون أن تستمر حماية تلك المصالح بشكل أو بآخر، ومستعدون لإحراق مصر بمن عليها إذا لم يتم ضمان ذلك. يظن البعض أن أي حديث عن المؤامرة والمصالح الخفية ليس سوى تحشيش فكري للهروب من تحمل المسئولية، وينسون أن كل المؤامرات تستند بالضرورة على منهج علمي وتستفيد من الأخطاء الموجودة في الواقع وتقوم بتوظيفها، وهو مايجعل إحباطها أمرا ممكنا، شريطة أن تعترف بوجودها ولا تتعامل مع كل ما يحدث حولك على أنه يحدث خبط عشواء أو محض مصادفة ولا يقف وراءه منتفعون أو مستفيدون.

 لست ناصريا ولا ساداتيا، ولست مستعدا للدخول في مهاترات بشأن عبد الناصر والسادات، لكنني أعلم أن هناك قوى إقليمية ودولية إستفادت بشكل رهيب من غياب مصر عن دورها وموقعها وإنكفائها على ذاتها بدءا من سبعينات القرن الماضي، وليس مصادفة أن هذه القوى خصوصا الخليجية منها هي التي تدعم مبارك الآن وتقاتل من أجل العفو عنه… جهود هذه الدول تتخفى تحت ستار القيم العربية الأصيلة، لكنها في حقيقة الأمر رد جميل لشخص قام بأكبر خدمة لهذه القوى، هي خدمة تقزيم مصر، وهي خدمة تحققت بثمن زهيد، كان يمكن أن تُدفع فيها تريليونات الدولارات، لكن مبارك فعل ذلك فقط بمليارات لا تساوي قيمة إخراج مصر من المعادلة وتحويلها إلى عالة على من حولها.

…وقادة هذه الدول يعلمون أن مايطلبونه يوافق هوى لدى قادة المجلس العسكري الذين يشعرون أن مبارك لا يستحق العقاب لأنه تخلى عن السلطة لهم، ومع ذلك يخطئ من يظن أنهم يعملون الآن لمصلحة مبارك كلية، فمبارك بالنسبة لهم ورقة محروقة، ولو كان يهددهم حقا لتخلصوا منه بشكل أو بآخر، وكل ما يهمهم الآن هو ترتيب الأوضاع المستقبلية التي تحفظ للجيش سطوته ونفوذه، لذلك يخطئ من يظن أن ما يجري الآن على الساحة صراع على الهوية الإسلامية أو على مدنية الدولة، فهو صراع على السلطة والمصالح، صراع حول من ستكون له الكلمة الأولى في حكم مصر، وكثير من القوى تم جرها إلى هذه المعركة لكي يحقق لها المجلس العسكري بعض ما تريده في الوقت المناسب، مقابل أن يفوز بكل ما يريده.

لقد تم إستخدام القوى الإسلامية بذكاء شديد في مناسبات عديدة كان أبرزها جمعة قندهار …ونجح المجلس العسكري في أن يرهب القوى «الخرعة» التي تطلق على نفسها إسم القوى المدنية، والتي تظن أن بضعة سطور في حتة ورقة يمكن أن تحميها من التطرف، كأن الشعب المصري لو إختار التطرف يمكن أن تردعه وثيقة وقع عليها مجموعة من الأفندية، هؤلاء للأسف ينسون أن معارك التطرف لا تجدي في حسمها الدبابات ولا البيادات، لأن التطرف مشروع يذكيه العنف ويعطيه القهر شرعية وحصانة، هم كسالى يريدون من يحارب عنهم ولهم، يتحدثون بإسم شعب لايعرفونه، بعضهم يتصور أن هذا الشعب يمكن أن يخاصم هويته وينسى تدينه، وفي نفس الوقت يتوهمون أنه يمكن أن ينحاز للتطرف والقتامة وينسى عشقه الأبدي للحياة والبهجة، وبدلا من أن يكون إنحياز هؤلاء واضحا ضد خلق أية سلطة جديدة تستعبد المصريين بدعوى الحفاظ على مدنية الدولة، قرروا أن يحاربوا الأفكار بالبيادات، فجعلوا بعضا من أنبل شباب مصر يستجير من الرمضاء بالنار، ويضع يده في يد كل من يعلو صوته ضد المجلس العسكري حتى لو كان سيفتك بحريته فور أن يصل إلى السلطة، وحتى لو كان مستعدا أن يبيعه على أول ناصية إذا نال هدفه ومراده في لعبة التفاوضات والمساومات، وستكون عندها النصوص والتخريجات حاضرة وتحت الطلب، ولن يبقى للذين تم إستخدامهم إلا الحسرة والندم.

للأسف، كل ما يحدث في مصر الآن يفسره قول الشاعر «وما سُمِّي الإنسان إلا لنسيه»، المجلس العسكري نسي ما حدث لمبارك بسبب التذاكي المفرط والثقة الزائدة بالقوة والإنحياز لحسابات الخارج والرهان على خوف الناس بدلا من الإرتكان لإرادة أحرار المصريين وإن قل عددهم، وكثير من الثوار نسوا أن ما أنجح ثورتهم كان قدرتهم على كسب أكبر عدد ممكن من الناس إلى صفوفهم ليصبح ضربهم مستحيلا، ولذلك ظلوا ينجرون طيلة الاشهر الماضية إلى معارك غير محسوبة أبعدتهم عن سلاحهم الرئيسي: الناس، والإخوان المسلمون نسوا درس 1954 فأعجبتهم كثرتهم وشقوا بينهم وبين القوى التي اشتركوا معها في الثورة أخاديد من الشك وسوء الفهم يصعب أن تُردم بسهولة لمجرد أن جفوة حدثت بين المجلس وبينهم.

والحل ياعم الفيلسوف؟، الحل أن يتذكر الجميع أن هناك ثورة حدثت في مصر، ويستحيل على أجعص جعيص أن يتحداها فيظن أنه يمكن أن ينفرد بتغيير موازين الأمور إما بقوته أو حماسه أو تنظيمه، فقد تغيرت قواعد الصراع في مصر إلى الأبد، ولذلك لا بد أن يدرك المجلس العسكري عبث تحديه لجيل ثائر يمتلك الأمل والمستقبل، وأن يدرك هذا الجيل الثائر أن هدم الدولة بكسر إرادة أي سلطة تديرها الآن قد يبدو تحديا جميلا ونحن جالسون على القهوة لكنه في الواقع أمر مخيف لن ينجو من عواقبه أحد أيا كان نبله، لذلك الحل ببساطة أن يتراجع الجميع إلى نفس المواقع التي كانوا عليها يوم 11 فبراير لنبدأ من أول وجديد، فلا زالت لدينا فرصة ربما لن تتكرر.

تحيا مصر، بس نديها فرصة.

(نشرت هذه السطور ضمن مقال أكبر حجما في جريدة التحرير بتاريخ 14 نوفمبر 2011 ولعلك تشاركني الإعتقاد أنها لا زالت صالحة للنشر والتأمل).

المصدر: جريدة الشروق