يقول بيتر فيسك إن الأشخاص الساعين لوظائف غير أكاديمية قد يحتاجون إلى تجريب شيء غير متوقع؛ لكي يلفتوا انتباه أرباب العمل.
في دراسة جين جودال التاريخية عن قرود الشمبانزي في جومبي بتنزانيا، لاحظَت الباحثة من بين القردة ذكرًا يافعًا ابتكر طريقة غير معتادة لرفع مكانته في المجموعة. لقد كان ذلك الصغير ـ الذي أسماه باحثو جودال بـ«مايك» ـ يتعرض لمضايقات من الذكور الأعلى مكانةً، وقليلًا ما يتلقى حصصًا من الطعام من الآخرين، كما كان محرومًا من أي فرصة للتزاوج
وفي يوم من الأيام، اكتشف مايك أنه عندما قَرَعَ ـ صدفةً ـ صفائح الكيروسين المعدنية الكبيرة الموجودة حول معسكر جودال، أدّى الضجيج إلى ترويع باقي أفراد مجموعة الشمبانزي. وفي أحد الأيام بعد الظهيرة، جرى مايك إلى منتصف المجموعة، وأخذ يضرب ويقرع إحدى الصفائح؛ مما أَبْعَدَ جميع القرود، ثم جلس بهدوء في وسط تلك الأرض، إلى أن عادت قرود الشامبانزي مرة أخرى ببطء لتتجمّع حوله. وبدأت الإناث تتملّقه، بينما أعطاه الذكور الآخرون ـ حتى ذكور الألفا الأكبر ـ مساحة خاصة واسعة.
تحوَّل مايك في ذات يوم من مجرد عضو أقل مكانة في المجموعة إلى واحد من أعلاها مكانةً. وقد تَبَنَّى في سبيل ذلك استراتيجية تُعرف في دوائر البحث عن العمل باسم «الخطوة الجريئة».
الخطوة الجريئة هي استراتيجية محسوبة لجذب الانتباه إلى نفسك، من خلال فعل مثير غير معتاد. إنها تعطي إشارة إلى رب العمل المحتمَل أن لديك الإبداع والدافع والاستعداد لتحمُّل المخاطر من أجل تحقيق شيء مهم. وبإمكان الخطوة الجريئة ـ عند تطبيقها بشكل مقنع وبإخلاص ـ أن تعيد تشكيل إدراك صاحب العمل لقدراتك وإمكاناتك، وذلك لأنه في مجال العمل خارج النطاق الأكاديمي يمكن للخطوة الجرئية أن تدفعك إلى الأمام.
دقات الساعة
في خطاب ألقَتْه في العام الماضي أمام طلاب الدكتوراة في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، تحدثت الكاتبة والمحاضِرة كريستينا سوساك عن استراتيجية الخطوة الجريئة التي استخدمتها بنجاح في منصب سابق لها في المبيعات؛ للفوز بمقابلة بيع وجهًا لوجه مع هدف كان يتهرب من مقابلتها، هو مدير قسم المعلومات لشركة كبيرة. وبعد عدة محاولات فاشلة للوصول إلى المدير من خلال المكالمات الهاتفية والبريد الإلكتروني، أدركت سوساك أن هذه الطرق لن تؤدي إلى ترتيب مقابلة.
لذا.. أرسلَتْ إلى المدير صندوقًا بالبريد، وفي داخل الصندوق وضعت منبهًا كبيرًا، وعليه ورقة كُتب عليها: «ألم يَحِن الوقت لنتقابل؟» رن هاتف سوساك في الصباح التالي؛ حيث كان المدير على الهاتف. قال لها: «حسنًا، أنا أعترف. لقد كان ذلك أكثر فعل مبدع وغير معتاد أراه من مندوب مبيعات. لماذا لا تأتين الأسبوع المقبل؛ لنناقش ما تقدمينه من عروض!».
حكيتُ هذه القصة لطالب دراسات عليا كان حريصًا على فرصة للتدريب كمؤلف نصوص في شركة للإعلانات. ورغم أنه كان كاتبًا ومحررًا متميزًا ومبدعًا، إلا أنه كان يفتقر إلى خبرة كتابة النصوص، التي كانت منصوصًا عليها بين المتطلبات الرئيسة التي لا يمكن التخلي عنها في كافة إعلانات الوظائف التي رآها. لذا.. فبعد مقابلة معلوماتية موجزة مع أحد أعضاء الشركة، قام بتصميم قميص دِعائي، عليه صورة جانبية لوجهه، واسمه، وجملة: «مرشح للتدريب 2014». وأرسل القميص إلى نائب رئيس الشركة، ورئيس المنتجات الإبداعية، وأقنع عددًا من الموظفين الآخرين الذين التقى بهم خلال المقابلة بأن يرتدوا القميص؛ وحصل على المنصب.
غالبًا ما يشعر العلماء في بداية مسارهم المهني بالخوف عندما يسمعون ـ لأول وهلة ـ عن استراتيجية الخطوة الجريئة. فبعد قضائهم سنوات في قعر الهرم الأكاديمي، يعتقد الكثير من الباحثين الصغار أن مسارهم الوظيفي سيتقدم فقط إذا ما كدّوا في طريقهم إلى أعلى بصَبْر، حيث تأتي الترقيات الوظيفية عندما تعتزل القرود الكبيرة ذات الظهر الرمادي −الباحثون الذين يصلون إلى سن التقاعد. وارتفاع المكانة المفاجئ هو أمر لم يُسمع به في العالم الأكاديمي المقيد وبطيء الحركة، حتى بعد نشْر اكتشاف عالمي مهم.
في الثقافة الأكاديمية، يتعلم طلاب الدراسات العليا أنه من أجل أن يتأهلوا للوظائف في مجالهم العلمي، يجب أن يكونوا خبراء معروفين على نطاق واسع، وأن المناصب الوحيدة التي عليهم أن يفكروا فيها هي تلك المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بمجال بحثهم العلمي. وتنظر المؤسسات الأكاديمية إلى الترويج للنفس بشك عميق، إذ ينبغي أن تتحدث إنجازات العمل عن نفسها. وإذا ما حاول طلاب الدراسات العليا أن يلفتوا الانتباه لأنفسهم أو لعملهم، فقد يَعتبِر بعض أعضاء هيئة التدريس وبعض رؤساء الأقسام أن هذه الجهود تُعتبر إشارة إلى أن هذا العمل دون المستوى.
«كموظف… من الضروري أن تدرك أنّ القدرة على التكيف، والاستعداد للتعلم، هما أكثر أهمية للنجاح المهني من الخبرة التقنية».
ورغم أن هذه المعايير الثقافية قد تكون من الضروريات في بيئة العمل الأكاديمي، إلا أنها تجعل من الباحثين في بداية مسارهم المهني غير متكيِّفين مع سوق العمل خارجها. فالخبرة هي أهم معيار للحصول على وظيفة في النطاق الأكاديمي، لكن في العالم الخارجي، يُعتبر الأسلوب على القَدْر نفسه من الأهمية بالنسبة إلى أرباب العمل المحتمَلين. وفي المجتمع الأكاديمي، يقضي الباحث أعوامًا يركِّز على مشكلة واحدة، أو مجال تقني واحد، لكنْ في غيره من القطاعات الهادفة إلى الربح، يعرف أرباب العمل أن الأولويات والفرص والتقنيات هي أمور تتغير سريعًا. وكموظف… من الضروري أن تدرك أنّ القدرة على التكيف، والاستعداد للتعلم، هما أكثر أهمية للنجاح المهني من الخبرة التقنية.
إذا ما كان حامل الدكتوراة الشاب متواضعًا في الحديث عن مواهبه لدى تقدُّمه إلى وظيفة غير أكاديمية، فإن هذا من شأنه أن يعزز الصورة المرسومة لدى أرباب العمل المحتمَلين بأنه غير واثق، ومتردد في أخذ زمام المبادرة، وأنه لا يلائم أي وظيفة غير البحث الأكاديمي، وهو المجال الذي تتوافر فيه مناصب قليلة بالطبع.
تُعَد الخطوة الجرئية خطيرة بطبيعتها؛ فأرباب العمل المحتمَلون قد يعتبرون محاولتك لتمييز نفسك غير ملائمة. وليس هناك سبيل للتأكد مما إذا كانت خطوتك الجريئة تلائم الهدف، أم لا، لكن مناقشتها مع بعض الأصدقاء، أو مع أحد الموجهين ربما تساعدك على صياغة لَفْتَة مميزة، دون أن تكون شاذة. وباعتبارك حاملًا للدكتوراة في مجال علمي، فإنك إذا ما سعيتَ لوظيفة خارج النطاق الأكاديمي ـ وإلى عائد اقتصادي أكبر لسنوات استثمارك في الدراسات العليا ـ فيجب عليك أن تكون قادرًا على الاحتفاظ بصفات الأمانة والنزاهة الفكرية، وفي الوقت ذاته أن تتكيف مع المعايير الثقافية لعالَم العمل غير الأكاديمي. عليك أن تعلم أن خبرتك في الدراسات العليا أعطتك مجموعة واسعة من الخبرات القابلة للنقل، وأنك بِضَمِّها إلى ذكائك ومهارتك؛ ستجعلك قادرًا على النجاح في نطاق واسع من الوظائف والأدوار.
من الضروري وجود قَدْر من الدعاية للذات. وإذا لم تؤكد على ما تعتقد أنك قادر على فعله؛ وتعكس سلوكًا إيجابيًّا واثقًا؛ فإن أرباب العمل لن يتحملوا مخاطر إغفال افتقارك إلى الخبرة. في بعض الأحيان، يكون من الضروري القيام بهذه الخطوة الجريئة، واتخاذ خطوة قد تَشعر أنها تنطوي على مخاطرة. يميل باحثو الدكتوراة الصغار إلى تجنُّب المخاطرة، لكن ما قد يبدو لهم خطوةً خطرة، ربما لا يكون كذلك على الإطلاق. فالخطوة الجريئة العارضة تبعث برسالة إلى أرباب العمل المحتمَلين، مفادها أنك تساوي أكثر من مجرد درجة الدكتوراة التي تحملها، وأنك جاهز للانتقال إلى أعلى، وإلى أبعد مما يذهب إليه الباقون.
المصدر: nature الطبعة العربية