أود أن أنبه إلى ضرورة الانتقال من شرعية «القضاء على الإخوان» إلى شرعية «العدل والحرية والمساواة»، وسائر القيم الإنسانية التى هى صميم الأديان، ولا أمل أن تصبح مصر دولة متطورة بدون الأخذ بها. ومن أول هذه القيم ألا نسمح لمسؤول بالهروب من المساءلة الجادة بزعم أن من يتهمه إخوانى! وأقرب مثال لذلك هو اتهام «جنينة» بأنه إخوانى لمجرد أن قام بواجبه وأعلن عن اتهامات محددة لوزير العدل، مع أن الأصل أنه لا أحد فوق المساءلة.
هناك مخاوف مشروعة من تراجع الحريات نتيجة للمواجهات الدامية مع الإخوان. والمبرر سيكون أننا فى حالة طوارئ، بل فى حرب حقيقية! لكنى أخشى أن تتحول مصر بالتدريج إلى «أرض الخوف».
من المثير للتأمل عدد المرات التى ذُكر فيها الخوف مرتبطا بمصر فى ثنايا تفاصيل قصة سيدنا موسى عليه السلام. ألقى الخوف بظلاله على مصر بأسرها.
فهناك الخوف الذى استشعرته أم موسى:« فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِى الْيَمِّ وَلَا تَخَافِى وَلَا تَحْزَنِى». وهناك الخوف الذى أحسه موسى قبل الرسالة « فَأَصْبَحَ فِى الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ». ذلك الخوف الذى كانت علامة انتهائه مغادرة مصر:« قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ».
وحتى فى لحظة مناجاته مع خالقه العظيم الذى أمره بالذهاب لفرعون:« قَالَ رَبِّ إِنِّى أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ»، «وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ»، فكان الرد من الرب: «قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِى مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى».
وحينما ذهب لفرعون قال له:« فَفَرَرْت مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ». وعند مباراته مع السحرة: « فَأَوْجَسَ فِى نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى. قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعلى».
وفى النهاية كانت خلاصة ما حدث «فَمَا آمَنَ لِمُوسَىٰ إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَىٰ خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ».
تكرر وصف الخوف مرتبطا بموسى. صحيح أن هناك دعاء يوسف عليه السلام قبلها بقرون: «ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ». فهل مسحت البشارة الخوف القديم؟ أم أن الخوف ما زال مستوطنا فى مصر؟.
أود أن أقول- للأجيال الجديدة خصيصا- إن الأصل فى مصر كان هو الخوف. وحرية الرأى التى شهدناها فى السنوات الأخيرة منذ حكم مبارك كانت هى الاستثناء. ولتعلموا أن معظم المعارضة، بمن فيهم أنا، لم تجرؤ على نقد مبارك ونظامه إلا حين تأكدت أنه صار مسموحا بانتقادهم. كان ذلك فى نهاية عهده، حينما شاخ الرجل وفسد نظامه وتزايدت ضغوط المجتمع الدولى من أجل حرية التعبير المقدسة فى المجتمعات الغربية، وتعدلت المعادلة الأمنية فسمحت بقدر من التنفيس للبخار حتى لا ينفجر المرجل. وقتها تكلمنا.
أتمنى ألا تعود مصر لكبت الحريات. صحيح أننى أريدها حرية مسؤولة. ولكنى أخشى أن تظهر العين الحمراء، بمبرر محاربة الإخوان، فيؤثر كل من لا يتحمل البهدلة أن يضع لسانه فى فمه. لقد كتبتُ بعد عزل مرسى قائلا إن عدم الضيق بالبرادعى، الذى ضاقت به الأنظمة المتعاقبة، هو مؤشرى بأننا نسير على الطريق الصحيح. للأسف ضاقوا به! واليوم أقول إن الإبقاء على «جنينة» وعدم إرهابه بتهمة الأخونة وإعطائه الفرصة الكاملة لتقديم مستنداته هو المؤشر (والمبشر) بقيام دولة القانون. أما إذا حدثت الأخرى- لا قدر الله -وتم عزل جنينة فمرحبا بكم فى «أرض الخوف».