ما يقلقنى هو أن التفكير والتخطيط بعيد المدى لا يزال غائباً عن المشهد المصرى، ونخشى أن نعود إلى سياسة «يوم بيوم»، التى تتعامل مع الدولة وكأنها محل بقالة أو مهمة ينهض بها عامل تراحيل، وهو ما قادنا إلى الكارثة التى نعانى منها الآن، وجعل بلاداً كنا نسبقها بكثير تتخطانا بمسافات شاسعة.
ولا يمكن للأمم أن تنهض وتتقدم وقد وُصمت بعشوائية فى التفكير والتدبير، أو استسلمت لتسيير الأمور يوماً بيوم، وكأنها «عامل تراحيل» لا يعرف ماذا سيفعل غداً أو بعد غد. فالدول التى تقدمت وحازت أسباب القوة والمنَعة والمكانة لم تصل إلى هذا هباء ولا محض مصادفة، إنما وفق تخطيط محكم يرسم معالم مستقبلها المنظور فى المجالات كافة، ماراً من «التصورات» إلى اختيار «الرجال» المؤهلين لترجمتها فى الواقع المعيش، ثم بناء المؤسسات التى يقوم على أكتافها هذا التنفيذ، ووضع «التشريعات» التى تيسّر الأمور وتضع لها الأطر القانونية الواجبة، مع الأخذ فى الاعتبار كافة التغيرات التى تطرأ على المجتمع فى قيمه وتنظيماته وعلاقاته. فى ركاب هذه المقاصد المهمة عرفت الإنسانية ضرورة وضع «الاستراتيجيات» وامتلكت مهارات فائقة فى هذه الناحية، ووزعت اهتماماتها على مختلف دروب الحياة وفروعها ومساراتها المعقدة، واستطاعت دول معينة بفضل هذا النوع من التفكير أن تمد نفوذها خارج حدودها وتسيطر على الآخرين بسهولة كبيرة.
والاستراتيجية هى علم وفن التخطيط وأصول القيادة، ترمى إلى الاستخدام الأمثل لكافة الإمكانات والوسائل المتوافرة، وهى مصطلح ينحدر من الحياة العسكرية بالأساس، ويعنى وضع الخطط الحربية قبل نشوب المعارك، ثم إدارتها أثناء جريانها، فالكلمة أصلاً مأخوذة من الكلمة الإغريقية Strato وتعنى الجيش أو الحشود العسكرية، ومن تلك الكلمة اشتقت اليونانية القديمة مصطلح Strategos وتعنى فن إدارة وقيادة الحروب. وتسلل المفهوم إلى مختلف العلوم والمجالات الحياتية ليعنى وضع خطط مسبقة، بعيدة المدى، لتحقيق هدف محدد أو حزمة من الأهداف فى ضوء الإمكانيات المتاحة أو التى يمكن الحصول عليها، ولذا وجدنا مصطلحات تبدأ من الاستراتيجيات الحربية والسياسية إلى استراتيجيات التسويق، مروراً بالاستراتيجيات الاجتماعية والثقافية والمعرفية والاقتصادية والأمنية. وهذا التوزع نجم عن التطور فى مجال الأفكار والنظريات ومسارات التطبيق. وفى درجة حضور الاستراتيجية نفسها هناك استراتيجية عليا أو شاملة واستراتيجية محدودة. بل داخل كل مجال هناك استراتيجيات فرعية، فمثلاً ضمن الاستراتيجية العسكرية هناك استراتيجية برية وبحرية وجوية.
بل إن هناك استراتيجيات مرتبطة بأهداف أو مشروعات عامة، الأمر الذى يجعلنا فى حاجة ماسة إلى استعمال وتوظيف عدة خطط تنتمى إلى عدة حقول معرفية ومسارات حياتية. فنحن حين نصيغ استراتيجيات لإعادة البناء، والارتقاء والنمو، والهيمنة، نحتاج إلى الاستعانة بعطاء مختلف العلوم الإنسانية والخبرات العملية.