عمرو حمزاوى يكتب | بيدرمان لماكس فريش

عمرو حمزاوى يكتب | بيدرمان لماكس فريش

عمرو حمزاوي

للأديب السويسرى ماكس فريش (1911/1991) دراما مسرحية رائعة عنوانها «بيدرمان ومشعلو الحرائق» (نشرت بين نهاية أربعينيات القرن العشرين وبداية خمسينياته) تواظب كبريات المسارح الناطقة باللغة الألمانية فى ألمانيا والنمسا وسويسرا على تقديمها بشكل حديث وبتأويل يربط فكرتها الأساسية بقضايا العصر. فدراما «بيدرمان ومشعلو الحرائق» تعالج عبر بطلها، السيد جوتليب بيدرمان، الذى حقق ثروة مالية جيدة من تصنيع مستحضرات للعناية بالشعر ومتزوج من سيدة مريضة بالقلب لا عمل لها إلا رعاية المنزل ورعايته، الخوف الشديد للإنسان المعاصر على ما يملكه، وما يتمتع به من منافع وامتيازات واستعداده الفورى للتخلى عن القيم والمبادئ السامية التى يتشدق بها فى سبيل الحفاظ على الثروة والملكية الخاصة وجبنه الفاضح فى وجه الشر طلبا للنجاة الشخصية.

تضع الدراما السيد بيدرمان وزوجته فى مواجهة مع ثلاثة رجال يشعلون الحرائق فى المنازل تلبية إما لنزوع إجرامى أو لرغبة انتقامية ضد الأغنياء أو لمثالية أيديولوجية تدعى البحث عن «العدل» فى المجتمع بتقويض حياة أصحاب الثروة والملكية الخاصة، وتتطور مواجهة بيدرمان وزوجته مع مشعلى الحرائق الذين اقتحموا منزلهما إلى تواطؤ مع «المجرمين» دوافعه الخوف والجبن وطلب النجاة الشخصية ينتهى باحتراق المنزل ثم المدينة بأكملها، بينما السيد بيدرمان يتناول «عشاء الصداقة» مع مشعلى الحرائق.

وإذا كان ماكس فريش قد كتب «بيدرمان ومشعلو الحرائق» فى أعقاب سقوط الفاشية فى أوروبا (نهاية الحرب العالمية الثانية 1939/1945) ليذكر الأوروبيون بتواطئهم مع «حرائق» هتلر وموسولينى إما صمتا أو تحايلا أو تأييدا حتى بدأت «منازلهم» هم (أى مجتمعاتهم) فى الاحتراق وليحذر فى أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين من كارثة الصمت مجددا إزاء فاشية سوفييتية ومكارثية أمريكية كانتا آنذاك فى صعود، فإن أهمية قراءة فريش النقدية للإنسان المعاصر وعجزه عن مواجهة الشر تتجاوز السياق التاريخى والجغرافى الذى كتب به أعماله واستدعى منه لغته ورموزه وحكاياته.

فاسم «بيدرمان»، مثلا، له رمزية محددة فى اللغة الألمانية تصف الإنسان ضيق الأفق والرؤية، الإنسان الذى لا لون له ولا قيم ومبادئ واضحة، الإنسان الحريص فقط على المنافع الشخصية والمصالح والمستميت دفاعا عن ثروته وملكيته الخاصة والمستعد للتخلى عن إسقاطاته التى يتشدق بها كالالتزام الدينى والوطنية وحب الخير فور تناقضها مع مصالحه أو عن خوفه على ما لديه. وتعود هذه الرمزية إلى القرن التاسع عشر ورسوخ الفئات البرجوازية الصغيرة فى المجتمعات الأوروبية وخوفها الدائم على «ثرواتها وملكياتها المحدودة» وبروز الاختلافات بينها وبين الفئات المظلومة اجتماعيا التى ثارت بحثا عن العدل وبينها أيضا وبين الرأسماليين الكبار وبقايا الأرستقراطية وبعضهم كان منفتحا على الأفكار المثالية. وإلى اليوم، يستخدم اسم بيدرمان (وأحيانا بيدرماير) فى اللغة الألمانية للتدليل على شيوع الخوف بين الناس وللإشارة إلى ضيق الأفق والعجز عن مواجهة الشر دفاعا عن قيم ومبادئ الإنسانية ورفضا للتواطؤ مع العصف بالعدل والحق والحرية.

أسعدتنى الدينا أثناء سنوات الدراسة والعمل فى برلين بمشاهدة أكثر من عرض مسرحى لدراما «بيدرمان ومشعلو الحرائق»، وما زلت أتذكر تفاصيل أحد هذه العروض الذى قدم تأويلا معاصرا باستدعاء فاشية الرئيس الأمريكى السابق بوش وجنون الحرب الأمريكية على الإرهاب بعد 11 سبتمبر 2001. أما ظواهر كالجنون الذى نعيش به هنا وصمت الكثيرين منا عليه والحرائق الإقليمية المنتشرة من حولنا، والتى تعيد لنا مجددا الحرب الأمريكية على الإرهاب، فتستحق أكثر من تأويل مسرحى مصرى معاصر لبيدرمان ومشعلى الحرائق.

غدا هامش جديد للديمقراطية فى مصر.

 

 

 

 

 

 

 

 

المصدر:الشروق

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *