وماذا بعد رفض الانجرار إلى أوهام «المؤامرة العالمية ضد مصر» وأحاديث «تآمر الغرب والشرق علينا» التى تنزع عن مجالنا العام القليل المتبقى من العقل؟ هل من تفسير لتجدد سطوة هذه الأوهام والأحاديث على قطاعات شعبية واسعة بعد كارثة تحطم الطائرة الروسية، ولجوء بعض الحكومات الأجنبية إلى إجراءات حظر سفر وإجلاء الرعايا من مصر؟ هل من تفسير يضاف إلى كون السلطة لا تكف عن التورط فى الترويج «للمؤامرة» كوسيلة لتزييف وعى الناس، وحشد تأييد الناس للحكم بادعاء مواجهته «لأعداء الوطن» المتربصين والمتراصين فى كل جانب، وإعفاء الحكم من المساءلة والمحاسبة عن حصاد ممارساته وقراراته؟ هل من تفسير يضاف إلى كون السلطة فى مصر، كما فى غيرها من المجتمعات، دوما ما تعمد إلى تجميل الواقع وإنكار الأزمات أو إلصاق المسئولية عنها بقوائم الأعداء؟
نعم، ثمة تفسيرات إضافية للولع الشعبى المصرى بأوهام المؤامرة وأحاديث التآمر بعيدا عن السلطة الحاكمة وأفعالها. نحن أمة قلقة على حاضرها، غير متفائلة بمستقبلها، رافضة لإجراء نقد ذاتى لإخفاقاتها وأسباب تعثرها، خائفة من الآخر الذى كانت تظن تفوقها عليه أو تمنى الذات الجماعية بذلك، ومن ثم تلجأ باستمرار لاتهام الآخر بالتآمر عليها والعمل على إفشال محالات تعافيها ومسارات تقدمها.
نحن أمة قلقة وخائفة اصطدمت فى خواتيم القرن الثامن عشر «بالفرنسيس» الذين كنا نظن تفوقنا عليهم، ثم «بالرجل الأبيض» المستعمر الذى خضعت لحكمه نخب البلاد واعتنقت وهم تفوقه هو الحضارى، ثم بالاستيطان الصهيونى الذى اغتصب أرض الشعب الفلسطينى وألحق بنا وبغيرنا من العرب هزائم متتالية ونحن نتغنى بقرب تحرير فلسطين وعودة صلاح الدين، ثم بالتبعية لمراكز الثروة والمال القريبة منا والبعيدة عنا. وفى معظم لحظات الاصطدام وفى أعقابها لم نضطلع أو تضطلع نخبنا بنقد ذاتى جاد وببحث موضوعى فى المسألة الجوهرية «لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا؟»، بل اكتفينا بكيل الاتهامات لقوائم الأعداء والكارهين والمأجورين والمتربصين، وأعفينا الذات الجماعية من مسئولية الإخفاق والتعثر.
لا أنكر أبدا مأساوية لحظات الاصطدام هذه، وحقيقة غلبة من واجهنا بحسابات القوة الشاملة، وكون عدوانية الفرنسيس والرجل الأبيض البريطانى والحركة الصهيونية والغرب الأمريكى والأوروبى هى التى جاءت بهم إلى أراضينا ومازالت تدفع بعضهم إلى التدخل فى شئوننا. غير أن القابع فيما وراء «عدوانيتهم» هو من جهة مصالحهم، مصالحهم المعروفة والمعلنة وغير المشروعة والتى كثيرا ما تتناقض مع مصالحنا، مصالحهم وليس مؤامراتهم المتوهمة أو المزعومة. وهو من جهة أخرى، ضعفنا الذى يمكنهم من قهرنا واستتباعنا ويحول بيننا وبين مقاومة عدوانيتهم بفاعلية، ضعفنا الذى نمتنع عن الاعتراف به ونستنكف عن البحث فى سبل تجاوزه وتغيير حسابات القوة «بيننا وبينهم» دون ادعاءات فارغة أو تجميل زائف. ووسيلتنا الجماعية دوما ما تكون إنكار الضعف مرة، وإطلاق أوهام المؤامرة وأحاديث التآمر مرات ومرات.
نحن أمة قلقة وخائفة من الآخر، تعانى طوال العقود الماضية من غياب الإنجازات الاقتصادية والاجتماعية والعلمية الحقيقية، ومن تراكم أزمات الفقر والبطالة والأمية والفجوة الواسعة بين الأغنياء قليلى العدد ومحدودى الدخل كثيرى العدد، ومن انهيار كفاءة الجهاز البيروقراطى للدولة شأنه شأن مقدمى الخدمات العامة والخاصة فى مجالات البحث العلمى والتعليم والرعاية الصحية؛ وجميع ذلك يرتب بجانب لحظات الاصطدام المتكرر بالآخر المتفوق شعورا جماعيا بالوهن والهوان والدونية نسعى للتخلص الزائف منه عبر إطلاق أوهام المؤامرة فى كل اتجاه، وادعاء تعرضنا «للضغوط» من كل صوب وحدب «وكأن لا عمل لمراكز القوة والثروة والمال فى العالم غير التفكير فى «تركيع مصر»، وعبر الترويج لوطنية شوفينية تنكر ضعفنا الحالى تارة بالتغنى بأمجاد الماضى وثانية بالاستعلاء على ضعفاء آخرين «العرب غير المانحين» وثالثة بالتعلق الطفولى بفانتازيا البطل المنقذ، المخلص الملهم التى سرعان ما تنقلب إلى مأساة وبين تاريخى بدايتها ونهايتها يتواصل تغييب العقل وإضاعة الطاقة الخلاقة وتراكم الأزمات وتكرر افتئات الآخرين على مصالحنا. نحن أيضا، وليس السلطة الحاكمة وأفعالها وحسب، نتحمل مسئولية الولع بأوهام المؤامرة.
المصدر: جريدة الشروق.