حتى الآن، لم تلتفت الحكومة، بجدية لغضب الأطباء واحتجاجهم، بالرغم من أن هذا الإضراب على وجه التحديد هو العَرَضْ الواضح لأزمة الرعاية الصحية فى مصر، ولا يمكن فهم هذه الأزمة إلا من خلالهم، سواء بتشخيصهم لها، أو الحلول التى يقترحونها، وليس صحيحا بالمرة، أن احتجاجاتهم مجرد احتجاجات فئوية تطالب بزيادة الأجور، بالرغم من أن هذا الطلب فى حد ذاته مقبول ومشروع، وإنما احتجاجات تهدف لتحسين حال الرعاية الصحية بما يليق بالمواطنين، خاصة أن الحال وصلت لدرجة غير مقبولة ولا معقولة ولا يمكن الصمت عليها أيضا، والمدهش أن صمت الحكومة يأتى مع استحقاقات دستورية توجب تخصيص ٣٪ من الناتج الإجمالى للموازنة للإنفاق على الصحة، خلال سنوات ثلاث، وقد سألت السيد وزير المالية عن البدء فى تطبيق هذا الاستحقاق، فأكد لى له أنه سيبدأ بالفعل من الموازنة الجديدة (٢٠١٤ ــ ٢٠١٥)، وأن الإنفاق على الصحة سيصل إلى أكثر من ٥١ مليار جنيه، مقابل ١٣ مليار جنيه تقريبا قبل الثورة، ومن المستهدف أن يصل قدره فى موازنة (٢٠١٧ ــ ٢٠١٨) إلى ٨٦ مليار جنيه، وهو بالمناسبة ليس ببعيد عن الرقم الذى يمكن أن يحقق رعاية صحية ممتازة، والذى يقدره الخبراء بما يقرب من مائة مليار جنيه.
إن ترك غضب الأطباء واحتجاجهم، يتصاعد، هو أمر غير مفهوم بالمرة، خاصة أن هناك تلميحات عابرة إلى أن هذا الإضراب يؤذى المرضى، ويهدد حياة بعضهم، وكأن هناك من يريد الإساءة لهم وتأليب المجتمع عليهم، على الرغم من أن هبتهم تأتى أولا، وأخيرا لصالح المواطن، ويكفى أن نشير إلى أن عدد الأسرة فى المستشفيات التابعة للدولة فى عام ١٩٩٩ كان قد وصل إلى مائة ألف سرير تقريبا، ووقتها كان عدد السكان حوالى ٦٠ مليونا، بينما ونحن نقترب من الملايين المائة، انخفض هذا الرقم وتراجع إلى ما يقرب من ٧٥ ألف سرير فقط وفقا لأرقام الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء، وهذا باختصار شديد يكشف عوارا لا يجب السكوت عليه، فى هذا الملف، خاصة فى ظل انتشار أمراض مزمنة لقطاعات واسعة من المواطنين البسطاء، الذين لا يعرفون طريق العلاج الخاص ولا طريق التأمين الصحى.
إن الحق فى الصحة، من الأمور التى لا خلاف عليها، كما أن الدستور الأخير نص على ذلك بطريقة ممتازة جعل الدولة فى حالة مسئولية كاملة للحفاظ على هذا الحق، فالقصة لم تكن أبدا أن الأطباء يرغبون فى زيادة أجورهم، رغم أن هذا حقهم، وإنما هناك من انطلق من ضرورة تغيير وضع بالغ الرداءة ومهين، للمريض وللفرق الطبية، وقد اتفقت جماعة الأطباء على تغيير هذا الوضع وتحسين شروط العلاج فى مصر، ولا أرغب فى مزيد من الحكايات التى تكشف سوء مستوى الخدمات الطبية، فاللحظة لا تحتاج سوى إلى تحركات واسعة وسريعة، وقد سألت الدكتور علاج غنام الخبير فى هذا الملف والمشرف على مبادرة الحق فى الصحة عن عمق الأزمة، فأكد أنها فى غياب الرؤية والسياسيات المتغيرة والمتبدلة، والتأخير فى إجراء أى إصلاحات، وقال إن البداية يجب أن تكون من إنشاء المجلس الأعلى للصحة لوضع الإستراتيجية المطلوبة، بعيدا عن تقلبات السياسة وتغيير الوزراء، وتكون وزارة الصحة هى جهة تنفيذ هذه السياسات، الأخطر إن الدكتور غنام قال لى إن الأمور لا تحتمل التأجيل، فيجب أن نفعل ذلك، الآن وفورا.