لا يمكن قبول أو تفسير ما حدث من الإعلام أثناء عمليات التصويت فى الانتخابات الرئاسية، ما حدث كان ثقيلا ومخزيا ويكشف عن اختلال كامل فى العلاقة ما بين الإعلام والرأى العام، ما حدث لا يمكن فهمه أو الدفاع عنه، أو حتى تركه يمر من دون تسجيل أو رصد، وأعتقد أنها المرة الأولى التى تتكاثر فيها النخب الإعلامية، بكامل عدتها تقريبا، على الرأى العام، كما أعتقد أنها المرة الأولى التى يستبيح فيها الإعلام جمهوره لدرجة سبه علانية وبألفاظ مخجلة، ومعايرته، ووصلت الأمور إلى التهديد المباشر من بعض الإعلاميين، والمذهل حقا أنه بالتوازى مع ذلك كان الإعلام يعتمد على ما يعتقد أنه صواب عبر متابعته غير الدقيقة لحقائق أمور التصويت، أو ربما، كما يميل كثيرون، كان يفعل ذلك وفق أوامر مباشرة من بعض قيادات عهد بائد، وفى كل الأحوال، وأيا كانت الدوافع، كان ما ارتكبه الإعلام جريمة كاملة، وفى لحظة هى مرتبكة بالأساس، لم تكن تحتاج لمزيد من الارتباك والعبث والتجاوز كما فعل الإعلام.
الإعلام، قرر فجأة أنه الوصى على الشعب، يعلمه ويهذبه ويؤدبه ويربيه، بعدوان واضح على جميع معايير المهنة وأخلاقياتها، ووصلت الأمور لانفلاتات غير معقولة، بعضها طائفى، يعاير الأقباط مثلا أن كنائسهم احترقت وأنهم مضطهدون فكيف لا يصوتون ويقفون بجوار الرجل الذى أنقذهم، وبعضها طبقى يصرخ فى وجه الفقراء والمساكين بأنهم سيعاقبون فى أعمالهم وفى رواتبهم ولا يلومون إلا أنفسهم حينما يجدون خصومات فى رواتبهم، والبعض الآخر فاشى وسافل بلغ السباب العلنى بأقذع الشتائم، كل هذا حدث دون خجل أو مراجعة، أو اعتذار أو حتى تبرير خائب يغلق هذا الملف على جروحه وتقيحاته، بل اعتبروا ذلك دورا وطنيا إلزاميا من لم يقم به يعد فى صفوف الخونة، وهذا هو العار بعينه، والمؤسف أن التطاول وصل للجنة المشرفة على الانتخابات وهم من رجال القضاة الشرفاء والأفاضل، والذين اضطروا تحت كل هذه الضغوط الرهيبة، كما ذكر أحدهم، إلى مد التصويت ليوم ثالث حتى يستريح الإعلام ويهدأ، وتخمد ثورته الكاذبة الخادعة غير الأخلاقية والمنافية تماما لشرف المهنة.
الفضيحة اكتملت مع تقارير المراقبين الدوليين، الذين أشادوا إجمالا بالانتخابات ومعاييرها التى ماثلت المعايير الدولية، وكانت ملاحظاتهم السلبية فقط على الإعلام الخاص وما فعله، فحتى الإعلام الحكومى تمت الإشادة بأدائه وحياديته، وطبعا لم تستطع تقارير المراقبة المصرية إلا أن تذكر الشىء نفسه والملاحظات ذاتها، أما الفضيحة الأكبر أنه حتى هذه اللحظة لم تقرر وسائل الإعلام الاعتذار عما حدث وهو اعتذار واجب وضرورى احتراما للرأى العام واحتراما لهذه المهنة المقدسة، وللإنصاف فإن التغطيات الإعلامية الإخبارية كانت، كعادتها على مستوى المسئولية والشرف المهنى والأمانة الأخلاقية، ولا يمكن إلا أن نعلن خالص التقدير لها، فهى غير مسئولة، عما يفعله السفهاء من الذين ينتمون لذات المهنة ويعملون معهم فى ذات الوسيلة.
إذا لم يفهم الإعلام، وفى المقدمة منه بعض الإعلاميين، أنهم ارتكبوا جريمة بشعة وشوهوا وجه مهنتهم، بل وأهانوها أيضا، فسنكون أمام مشكلة حقيقية فى لحظة ميلاد نطام جديد، فالإعلام كان وسيبقى المراقب الأول لتصرفات وقرارات أى نطام، كما سيبقى الإعلام هو صوت الجماهير وضمير الشعب، وإذا غابت هذه الرقابة وصمت هذا الصوت واختفى هذا الضمير، فنحن ذاهبون، جميعا، إلى ما لا تُحمد عقباه