عمرو خفاجى يكتب | معضلة
لا تتوقف الشكاوى عن سوء الوضع العام فى الأعمال التابعة للدولة، ومنذ ثورة الخامس والعشرين من يناير، ولا حديث إلا عن ضرورة تحسين أوضاع العاملين فى الحكومة، خاصة الأجور التى اعتبرها البعض مهينة ولا تعكس واقع الحياة فى مصر، والأزمة كانت قد بدأت حتى قبل الثورة، وملامح الجهود التى بذلت فى هذا الإطار، الحكم الذى صدر بإلزام الدولة بتحديد حد أدنى للأجور، وتم الاتفاق وقتها على ١٢٠٠ جنيه شهريا، وهو ذات الرقم الذى حددته حكومة الدكتور حازم الببلاوى فى تطبيقها للقرار، فى مقابل ذلك، ورغم علم الجميع بسوء العمل فى الحكومة، وتدنى أجورها، إلا أن هجمات الجميع على الوظائف الحكومية، بالطرق المشروعة وغير المشروعة، كان لافتا للانتباه، ومحيرا وغامضا فى نفس الوقت، خاصة من الذين يتركون وظائفهم فى القطاع الخاص حيث يعملون بأجور لا بأس بها، ويذهبون لهذه الأجور الهزيلة المهينة كما يقولون، ويكفى أن نشير إلى أن عدد من كانوا يعملون فى الوظائف الحكومية قبل الثورة لم يتجاوز ٥,٧ مليون موظف فى كافة القطاعات، بينما يتجاوز حاليا ٦,٧ مليون موظف، أى أن هناك زيادة تفوق المليون وظيفة فى أقل من ثلاثة أعوام، وهو أمر يعكس ارتباكا حقيقيا فى مفهوم التنمية الإدارية.
أستطيع أن أقول بكل شجاعة إن المثل القائل (إن فاتك الميرى إتمرمغ فى ترابه) مازال حيا وقويا وحاكما لثقافة المصريين، خاصة خارج القاهرة فى الدوائر الريفية، وربما لا يعلم كثيرون، أن مئات الآلاف من الوظائف دفع من رغب فى شغلها عشرات الآلاف من الجنيهات، وأن الفلاح البسيط كان يبيع أرضه من أجل شراء وظيفة حكومية لابنه، وما يحزن أنها وظائف تافهة بالمرتبات الهزيلة المهينة، ولا تنبئ عن مستقبل مهنى أو وظيفى، وبعض الوظائف لمن لا يعلم تجاوز سعر شغلها أكثر من خمسين ألف جنيه، وهو ما يزيد الأمر غموضا فى هذه الثقافة العجيبة.
لكن إذا نظرنا للأمر بمفهوم المخالفة، فعلينا أن نسأل لماذا أصبح القطاع الخاص طاردا لعمالته وموظفيه، والهرب منه فى أقرب فرصة لوظيفة حكومية، أصحاب الأعمال الخاصة يرون أن هؤلاء لا يرغبون حقيقة فى العمل، لأن العمل فى القطاع الخاص جاد وحقيقى، بينما الحكومة لا تسأل عن موظيفها ولا تعاقبهم، وبالتالى يكون الانضمام للعمل الحكومى، يعنى أن الموظف سيقبض راتبه، من دون عمل، ويتفرغ لأعماله الأخرى، لذا لم يكن يهتم أحد بقيمة الأجر، أو أن هناك فريقا يرى أن ضمان مستقبل الأولاد فى المعاش الحكومى، وكلها ثقافات زائفة لم يجتهد أحد فى تغييرها أو حتى مناقشتها، وطبعا لا بمكن أن نغفل أن بعض أصحاب الأعمال ينتهجون مسالك فى إدارة أعمالهم تجعل من يعمل لديهم لا يشعر بأى أمان فيهرب مع أول وظيفة حكومية ينجح فى تدبيرها.
أعتقد أن هذه معضلة حقيقية، خاصة الفساد فى عمليات التشغيل والتوظيف، المستندة على الرشوة، والتى لا يمكن ان تنتج جهازا حكوميا جيدا، فالأعداد التى تطلب العمل تتضاعف سنويا، وربما وصلت الآن إلى حوالى ٨٠٠ ألف طالب عمل، نصفهم يحملون مؤهلات عليا، ولا يمكن بأى حال من الأحوال استيعابهم فى الجهاز الحكومى، وبالتالى صارت المعركة واضحة أمام صناع القرار، تغيير ثقافة المواطنين للحد من الطلب على الوظائف الحكومية، وثانيا تعديل الأوضاع بالتشريعات والمراقبة لضبط العمل فى القطاع الخاص ليصبح أكثر عدالة وأمانا للعامل والموظف، وأيضا صاحب العمل، أما الاستجابة الدائمة لضغوط التشغيل فى الحكومة ومضاعفة الرواتب والأجور، فتلك هى الكارثة الحقيقية التى نستعد لاستقبالها.