عمر طاهر يكتب| تاريخ الصدفة والغباء

عمر طاهر

كتاب اليوم جاء فى وقته، فهو يكشف لنا كيف أن تاريخ الانتصارات والهزائم والأحداث الكبرى عموما لا يرتبط طول الوقت بمهارة القائد وذكاء صاحب الاستراتيجية، لكن كانت نقط التحول فى كثير من الأوقات مرتبطة بتفاصيل قائمة على الصدفة أو على غباء أحد الأطراف «ألا يذكرك هذا الكلام بشىء؟».

يعنى مثلا لو على سبيل المصادفة انقطع الإنترنت عن مصر «كعادته فى السنوات الثلاث السابقة على 25 يناير» لمدة أسبوع، فى الوقت الذى تم استغلاله فيه للحشد لهذا اليوم، أو لو كانت الداخلية أكثر ذكاء من أن تقوم بقطع الاتصالات عن مصر كلها يوم 28، بما منح كل من لديه نصف نية للنزول حماسا تاما للوجود فى الشارع على الأقل. لو على سبيل المصادفة مرضت والدة الشيخ حازم أبو إسماعيل فى اليوم الذى توجهت فيه لإنهاء إجراءات الحصول على الجنسية الأمريكية، أو أن المسؤول عن عدّ توكيلات عمر سليمان للترشح للرئاسة لم يخطئ بما يجعل عدد التوكيلات الذى تم تسليمه أقل من المطلوب. لو كان محمد مرسى أكثر ذكاء من الاصطدام بالشعب فى 30 يونيو، وكان يمتلك من الحصافة ما يكفى لقبول فكرة الاستفتاء على وجوده، وهى فكرة كانت ستضمن له تأييد كثيرين، على الأقل احتراما لشجاعته الأدبية، ولكن الله غالب على أمره أو كما قال «فأغشيناهم فهم لا يبصرون»، وهى الآية التى تليق بكل من سقط فى السنوات الماضية.

الكتاب طبعا لم يتوقف عند هذه الأفكار، لكنه اهتم بأحداث أكثر تأثيرا فى العالم كله، تحديدا الأحداث التى كان للصدفة أو الغباء دور فى اكتمالها، فسرب الطائرات الذى خرج محملا برؤوس نووية فى أغسطس 45، كان يهدف لضرب هذه الأهداف «كوكورا، نيجاتا، هيروشيما»، وبينما هم على ارتفاع 2600 قدم تلقى قائد السرب من الراصد الجوى رسالة تقول إن الغيوم تغطى الأهداف وتكاد لا تُرى، وبعد قليل كانت الغيوم تنحسر عن الهدف الثالث بنسبة ضئيلة «عن ثلاثة أعشاره» كان الاختيار صعبا، عودة محملة بالفشل أو نجاح على المحك، فاختار السرب الأخير، وهكذا لعبت الغيوم دورها فى اختيار ضحية الهجوم.

كان صدام حسين سيجعل الغرب وحلفاءه وجيشا من نصف مليون جندى يبدون كمجموعة من الحمقى، بطريقة تغير موازين قوى العالم، لو كان انسحب من الكويت قبل 17 يناير، قبل أن يتعرض لشر هزيمة فى أقل من ثلاث ساعات أنهت الحرب مبكرا. الأمر نفسه كان سيغير مصير الحرب الصليبية، لو أن قائد الجيوش استمع جيدا لرأى قمص طرابلس الذى قال له لا تجبر جيشك على عبور هذه الأراضى القاحلة، سيهلكون بسهولة وسينقض علينا صلاح الدين فى الصحراء، إلا أنه رفض الاستماع لرأى شخص أدرى بالمنطقة وبصلاح الدين الأيوبى، لمجرد أن القائد لم يكن يحب قمص طرابلس بوشاية من آخرين فى الجيش قالوا له إنه خائن. أما سور برلين فقد كانت شرارة هدمه جملة عابرة خرجت لا إراديا من الناطق الرسمى للجنة المركزية للحزب الحاكم فى ألمانيا الشرقية، كان السور مأساة مقيمة على مدى سنوات طويلة، وشهد مصرع كثيرين فى محاولة لعبوره، وكانت القصة الأسوأ صيتا للشاب بيتر فيختر، 18 عاما، الذى علق بين الأسوار الشائكة فوق السور وترك ساعات طويلة يحتضر بسبب نزف شديد، بينما المصورون يلتقطون له الصور عبر الأسلاك الشائكة ويتابعون سكرات موته. فى ليلة ما، وفى حفل موسيقى فى مدينة ليبيزيغ، تجرأ الموسيقى الشهير كورت موزارت وقال أمام المئات دون سابق تخطيط «لا نستطيع الاستمرار هكذا»، بعدها بيومين كان هناك خمسون ألفا فى الشارع، وبعد أسبوع أصبحوا أكثر من مئة وخمسين ألفا. اشتعل الموقف وأصبح الشعب فى الشارع على وشك أن يهدم سور السجن الذى يحول بينه وبين أوروبا الحديثة، وفى لقاء على الهواء على هامش الحدث مع الناطق الرسمى للحزب سأله أحد المراسلين «متى سيسمح للمواطنين بحرية السفر؟»، فقال دون أن يفكر «يستطيعون أن يغادروا متى أرادوا ولن يمنعهم أحد»، حرّكت الجملة العالم كله لدرجة أن أهل ألمانيا الغربية زحفوا باتجاه السور واعتلوه فى انتظار فتح الأبواب أمام أهل ألمانيا الشرقية. كانت قوات الشرطة التى تحرس البوابات متربصة بحشد ألمانيا الشرقية ومدججة بالسلاح، وكانت تعلم أن الجملة كانت للاستهلاك الإعلامى، فهى لم تتسلم أوامر رسمية بالسماح بالسفر، ورابضت فى أماكنها إلى أن أخطأ أحد الجنود الذين كانوا يُبعدون الحشود، شعر باختناق فقام بفتح البوابة ليبتعد عن الحشد من أجل بعض الهواء، فاندفعت الحشود من هذه الفتحة الصغيرة، اعتقدت حراسة بقية البوابات أن الأوامر قد وصلت ففتحوا البوابات أمام الحشود فانهار الجدار.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *